السيارة بين المنفعة الموعودة والأعباء المعهودة
شهد المواطن السوري تنامي رخاء اقتصادي طيلة العقود الستين الماضية، وحقّق حالة متميزة في بدايات القرن الحالي، شملت شريحة واسعة من المواطنين، بمن فيهم أصحاب الدخل المتوسط وأعداد غير قليلة من العاملين في الدولة، بحيث تمكّنوا من تأمين سكن حديث وأثاث منزلي والكثير من حاجاتهم، والتحضير لمستقبل أبنائهم في أكثر من جانب، واندفاع نسبة منهم باتجاه شراء سيارة خاصة للخدمة الذاتية، مستفيدين من ادخاراتهم ودخلهم الشهري، والقروض المصرفية الميسّرة من أغلب المصارف، والمؤسف أن آخرين باعوا بعض ممتلكاتهم من عقارات أو مواشٍ، واتجهوا لشراء سيارة عامة للاستفادة من دخلها، نظراً لحركة النقل الكبيرة بمختلف أشكالها، أكان للركاب أم للبضائع، وقد سمح انخفاض سعر الوقود المدعوم بتحقيق حركة رفاهية عالية لأصحاب السيارات الخاصة، وأيضاً أتاح تحقيق مردودية مقبولة لأصحاب السيارات العامة، ما تسبّب بتراكم شراء كمّ كبير من السيارات من مختلف الأنواع، حتى شهدت السنوات الأخيرة صعوبة في أن يجد بعضهم موقفاً لسيارته، عند تجوله بها في شوارع المدينة لقضاء بعض حاجاته، رغم وجود بعض المواقف المأجورة، أو أن يقف بها قرب مسكنه أو مكان عمله، ما اضطره إلى أن يوقفها في مكان بعيد نسبياً عن مكان قضاء حاجته، والبعض عانى من ذلك خلال فترة راحته النهارية أو مبيته الليلي، فبعض الفسحات الموجودة أمام الأبنية وأمام المنشآت بأنواعها داخل المدن لم تعد تكفي لوقوف سيارات أصحابها، لأن مالكي السيارات أكبر عدداً من المساحات المتاحة لهم، ما تسبّب بسعي بعض المقيمين في بعض الأحياء لتغيير مكان سكنهم لمنطقة أخرى، يتاح لهم فيها توقيف سياراتهم قريباً منهم. ولا يخفى على أحد منظر كثافة السير في الكثير من شوارع المدن، إضافة إلى اكتظاظها بالسيارات الواقفة على الجانبين، عدا زحمة السير الملحوظة على كثير من الطرقات العامة من سيارات كثيرة لا تضمّ إلا سائقها أو قلّة معه، أكانت خاصة له أو مسلمة له من الإدارات الرسمية، وقد نجم عن ذلك المزيد من استهلاك الوقود المدعوم من الميزانية العامة للدولة، ورصد المبالغ لإنشاء الطرق والساحات والجسور وصيانتها وتجديدها.
قد يرى البعض أن من حقّ كل مواطن اقتناء سيارة، ولكن كثيرين (مسؤولين ومواطنين عاديين) تجاهلوا مدى ما تعانيه الشريحة الأكبر التي لا تملك سيارة من تبعات تفاقم السيارات الذي استهلك قسماً كبيراً من ميزانية الدعم ورفع نسبة الضجيج والتلوث البيئي وعدد حوادث السير، ولم يدركوا العواقب الاقتصادية لاقتناء المزيد من السيارات، حتى وقعت الفأس بالرأس -كما يقال– هذه الأيام التي نشهد فيها ارتفاع أسعار متتالياً لكل ما تتطلبه السيارة، حتى كادت السيارة الخاصة تحتاج كامل الراتب الشهري لعامل الدخل المحدود الذي يملكها، وهو بين خيارين أحلاهما مرّ، فالتخلي عنها بعد أن اعتاد لخدماتها أمر صعب، والأصعب هو استمرارية تخصيص جزء كبير من الدخل لصالحها، واضطرت الجهات العامة لأن تخفض حصة الوقود لسياراتها تدريجياً، وحملت مسؤولية تصليحها على عاتق مستخدمها، حيث ينوء كثير منهم تحت هذا الحمل الثقيل، وكثير من أصحاب السيارات العامة كادوا يقعون في عجز كبير نظراً لارتفاع تكاليف السيارة من وقود وتصليح وقطع غيار بنسبة أعلى بكثير من ارتفاع دخلها، فثمن عجلات جديدة لكثير من السيارات اليوم يفوق مجمل قيمة السيارة يوم شرائها لأول مرة، وقيمة ليتر الوقود الواحد حالياً أعلى من مجمل قيمة الوقود الذي يتسعه خزانها قبل سنوات، ما جعل حال السيارة الخاصة ينقلب من رفاهية إلى متاعب، وحال السيارة العمومية من دخل إلى إنفاق، لأن ارتفاع أجورها المتزايد أخفض من التزايد الحاصل في ارتفاع تكاليفها، هذا الارتفاع الذي تسبّب بتخفيض ساعات عملها، والمؤسف أن نسبة كبيرة من مالكي السيارات العامة لم يعد بإمكانهم التحوّل إلى عمل آخر لأكثر من سبب.
الحاجة ماسة لسياسة حكيمة تضمن تشغيل السيارات العامة بأجور تناسب مستخدميها وتؤمّن ريعية مناسبة لأصحابها، وفق آلية تخفّف من اقتناء السيارات الخاصة، والتأسيس لتوجيه الادخارات والدخل الفائض للاستثمار في المشاريع الإنتاجية الزراعية والصناعية.
عبد اللطيف عباس شعبان/ عضو جمعية العلوم الاقتصادية السورية