أشعتك مركز الكون
غالية خوجة
منذ الشروق الأول للشمس، والزمانُ يردد أبجديته الفينيقية الأولى: “حطّم سيفك، وتناول معولك، واتبعني، لنزرع السلام والمحبة في كبد الأرض، أنت سوري، وسورية مركز الأرض”.
ما زال صوته يلامس روحك، أيها السوري، ويشدك من نبضاتك لترفرف مثل الفراشة، وتقاوم كافة النيران الظلامية متمسكاً بترابك وجرحك وكرامتك ووطنك، بينما صوتك الشامخ يصدح: هذا الرقيم الطيني قد نجد له مداراً في درب التبانة، وبين المجرات الأخرى، وهو يحكي عن أول المدن المأهولة في العالم ومنها دمشق وحلب واللاذقية، المتجذرة بالحضارة والإنسانية منذ آلاف السنين.
سيبقى صوته صوتك يحزم صوت أجدادك وشهدائك وجرحاك مثل باقات الياسمين، وينثر روائحها على السنديان والصبّار، فتتعطّر الأكوان باسم سوريتك التي تحب، لتظل الشمس تشرق من اسمها، وتجذبك إلى روحك من جديد لتتفاءل مع يوم جديد.
أوليست النبتة الخارجة من البراكين والصحارى والحجارة هي الاخضرار الأقوى؟
يهمس الرقيم في أذنك، ويتابع بصوت شجي: أيها السوري، لم تكن زنوبيا ملكة تدمر فقط، بل كانت ملكة القيم والصمود والنصر، وستبقى تدمر صامدة بآثارها وقبورها وقنوات مياهها ومدافنها، وسيبقى لزنوبيا حضورها المتسع أفقياً وعمودياً في الزمان والمكان.
ثم..، يلتفتُ الصوت، ويلتفّ على صمته، فتتحرك الأزمنة الماضية مع الآتية، وتمطّ اللحظات رؤوسها من بين كلمات الرقيم، وتحكي لك عن يوسف العظمة الذي تعرفه، وكيف قابل الموت وجهاً لوجه، ليحافظ على قداسة الوطن، وهذا ما فعله أبطال قلعة حلب، وفعله الباحث خالد الأسعد، وهذا ما يفعله وسيظل يفعله الجنود والأبطال والمبدعون على أرض هذا الوطن لتشرق الشمس من جديد، وتذهب ليومك من جديد، أو يذهب إلى شمسك يوم جديد.
لم تعد تأبه بالظلام والحرائق والموت، لأنك الضوء الذي يحنو على التربة والطفل والعجوز، ولم تعد تترك للرحيل والهجرة والغربة والكآبة واليأس مكاناً في قاموسك الحياتي، نسيت صرختك التي تشبه لوحة “الصرخة” للفنان مونش، وعدت إلى دواخلك المنسجمة بإيجابية مثل انسجام العلامات الموسيقية على سلّمها الخماسي، المتسللة مع زقزقة العصافير والأشعة المضيئة إلى لوحة حقل “عبّاد الشمس” لفان غوغ.
هل تسمع الآن ما تحبه من الألحان؟
كأنك ترقص بعيداً عن “الأرض اليباب” تلك القصيدة التي كتبها الشاعر ت. س. إليوت، ليقترب من الكنوز المختبئة في الذات الإنسانية.
وترقص بعيداً عن لوحة بيكاسو “الجورنيكا” بشخوصها المدمرة، المتكسرة، المتداخلة، المحترقة، بعيداً عن “فاوست” الشاعر غوته، وشياطين النصوص الأخرى، ترقص بين الموشحات الأندلسية والقدود الحلبية والفلكلور الجزراوي والساحلي.
ترقص لأنك واثق بالآتي منذ الشروق الأول للشمس، وابتسامتك، الآن، أجمل من ابتسامة “الموناليزا” التي رسمها الفنان ليوناردو دافنشي، ترقص ممسكاً بالنهارات التي صارت تعني لك: ماذا قدمت لعائلتك وأقربائك والناس؟ ماذا ستفعل من خير اليوم للجميع والوطن لترتاح نفسك، وتشعّ روحك مع ضميرك مثل جوهرة كونية تدور مع هذا الرقيم في الفضاء لتمنح الحياةَ من جديد؟
منذ الشروق الأول للشمس، وأنت أيها السوري، جوهرة كونية، وجاذبيتك مركز الأرض، وتتفتّح مع أبجدية الرّقيم من جديد، لتصير السنابلَ في الحقول، والورود بيد العشاق، وتصير أشجاراً وغيوماً وفراشات وطيوراً وكروماً تتحدى هذه الطلاميات، فتضاء روحك بفيضان من العطور المعتّقة بالأشعة، تستدير مع اللحظة، لتكتشف أنك وأبجدية الرقيم والشمس صرتم أرواح الشهداء وفصول الأرض وضحكة الطفلة والحجارة التي تبني المحبة المقدسة المعمّرة عتيّاً في وطنك المقدس وهو يناديك: هيا بنا، دائماً، نزرع محبة الأرض لأن سوريتنا مركز الكون والأرض.