رؤيا
عبد الكريم النّاعم
يقول المحلّلون النّفسيّون – ويشاركهم في ذلك مَن ليسوا من الآخذين بهذه المدرسة – إنّ الأحلام، في بعض دلالاتها، تعبير عن رغبات مكبوتة، ويقول “أوشو” ما معناه إنّ الأحلام من عمل الدماغ، وأيّاً يكن الأمر فإنّ أحلامنا تشكّل مقطعاً من مقاطع حياتنا، هي ذلك المقطع الذي نذهب فيه للنّوم، وثمّة مَن يرى أنّ ما من أحد لا يرى أحلاماً، ولكنّ البعض لا يذكرها، بينما هي تزاحمنا على جزء من الحياة.. وها قد جرّتنا المياه إلى مواقع لم نكن نقصدها، فيما يرى النّائم جاءني إنسان لم أعرفه من قبل، وفور جلوسه تصرّف تصرّف مَن يعرف الآخر بثقة واطمئنان، فاستغربتُ منه هذه الجرأة، وأخفيتُ ذلك، قال: “أنا جئتُ لأجري مقابلة صحفيّة معك، فهل أنت مستعدّ لذلك”؟
كان في السؤال شيء يُشبه التحدّي غير المُعلَن، ومنعني وجوده في ضيافتي من التصرّف بردّة فعل قد لا أرضى عنها فيما بعد، قلت بهدوء لا يخلو من رائحة الحذَر: “لصالح أيّة صحيفة”؟ قال: “هل اسم الصحيفة مهمّ”؟ قلت: “ليس المهمّ اسم الصحيفة، بل المهمّ أن أفهم اتّجاهها، وأين مصبّ مياهها”، قال: “اطمئنّن فهي ليست مع الصهاينة، ولا مع أعراب الخليج، ولا مع أيّ شيء له علاقة بالرجعيّة”، قلت: “هذا يكفي، تفضّل”، قال “لقد نشرتَ على صفحتك في الفيسبوك قصيدة بعنوان “وداعاً أيّها الشعر”، ولن أتوقّف عند جماليات القصيدة، ورنّة الأسى فيها، والأثر الحزين الذي تركتْه في نفسي، بل سأسأل: كيف تستطيع توديع الشعر، وهل يستطيع الشاعر أن يُطفئ تلك الجذوة التي في أعماقه”؟! قلت: “سؤال مهمّ، وهو يُخرجني على الأقلّ من المساحات التقليديّة في الأسئلة الكثيرة التي طُرحت عليّ، في لقاءات أخرى، أنا فيما ورد في تلك القصيدة بيّنت بعض الأسباب، وربّما كان ثمّة أسباب أخرى، فحين يرى الشاعر أنّه قد قال كلّ ما يجب أن يقوله، وأنّه ربّما كرّرَ كغيره الكثير من المعاني والصور، فإنّه يؤثرُ أنْ يُقفل تلك الزّرقة، وأن يكتفي من الشعر بقراءته، لا بالعودة إلى السفر في أمدائه، وما أظنّ أنّني أوّل من أغلق هذا الباب وأقلع عن المسافرات الضاربة في أغوار التّوق والحلم، فقصّة الشاعر المدينيّ “الدارمي”، والخُمُر السوداء، صاحب قصيدة “قُلْ للمليحة في الخمارِ الأسودِ”،.. والتي قالها بعد أن ترك كتابة الشعر، هذه القصّة مشهورة، وثمّة آخرون، وإنْ على قلّة، قد فعلوا ذلك، أنت حين تصل إلى مرحلة، حتى لو كانت توهّماً، ترى نفسك فيها أنّك لن تضيف ما ترغب فيه، فربّما كان الأسلم أنْ تُغادر منصّة المسرح”، قال: “وماذا عن تلك الجذوة المتّقدة في الأعماق البعيدة، والتي لا تموت إلاّ بموت الإنسان”؟!
قلت: “أنا لم أُقلع عن المشاعر، لأنّ ذلك ليس بمُكنة أحد، ولو أستطيع، لكنتُ أرحتُ نفسي من كثير من المعانيات التي لا تكتفي باليقظة بل تلاحقني حتى في النّوم، ليتني أستطيع إيقاف الإحساس بآلامي وآلام النّاس، والتي تتكاثر هذه الأيام تكاثراً سرطانيّاً مخيفاً، ليتني أستطيع الخروج من ذلك المَطْهر، إنْ صحّت التسمية، ربّما يصل الشاعر بعد كتابته نصّاً جميلاً، إلى شواطئ تنسيه عذاب الرّحلة، وقلقِ مواجهة العواصف، والنّواتئ الصخريّة، فيتنهّد مرتاحاً ولو بمقدار الشهيق والزّفير، وقد يجد في ذلك ماسَةَ عزائه، وربّما آنسَه أن يأتي الناس إلى قاعة ما ليستمعوا إليه، وقد يرضي بعض طموحه، ولا أقول غروره، أنّ تلتمع الأعين ببريق التواصل، والاندماج، كلّ هذا أعرفه، وتذوّقت كؤوس رحيقه على مدى أزمنة مديدة، ولكنّني في لحظة ما، شعرتُ أنّني أستطيع أنْ أغادر ذلك الميناء، مع المحافظة على الجذوة المُتّقدة، وربّما كان في أسباب ذلك أنّ الواقع الذي نواجهه، صار أغرب من غرائب الشعرـ ولكنْ ليس بجمالياته، بل بكوابيسه، والكلام في هذا طويل ومؤلم…”، وَ… فتحتُ عينيّ لأرى أنّني كنتُ في حلم، لا أقول عنه غير أنّه لم يكن كابوساً والحمد لله.
aaalnaem@gmail.com