عن الاستقلال.. و”آباء رغال” الجدد
أحمد حسن
منذ اللحظة الأولى للحرب الدائرة مع سورية وعليها، كان “الاقتصاد” و”الوعي” جبهتين مشتعلتين -بالتوازي والتساوق مع الجبهة العسكرية- في هذه المعركة القاسية، باعتبار الأول الطريق الأسرع لفرض الاستسلام على شعب منهك وجائع، والثاني الطريق الأقصر والأقل كلفة لدوام الاحتلال بل ودفع الأطراف المستلب وعيها لاستجدائه في أحيان كثيرة.
واليوم ونحن على أعتاب عيد الاستقلال الوطني عن المستعمر الفرنسي نلاحظ زيادة في حدة التركيز على هاتين الجبهتين، سواء من ناحية تشديد الحصار الاقتصادي الفاجر على لقمة السوري ودوائه وأسباب معيشته، أو من خلال الهجمة المسعورة على وعيه بهدف استلابه بالكامل.
وفي هذا المجال، وعلى عكس العادة العربية التليدة في الحديث عن “أيام” لأحداثهم الجليلة بما يجعلها تبدو منقطعة عن سياقها التاريخي، يمكن لنا القول، بكل ثقة، إن استقلال أمة ما لم يكن نتاج يوم واحد، ولا حصيلة نضال مجموعة بشريّة محدّدة، لكنه تتويج لجهود أجيال متوالية من الرجال والنساء بعضهم قدّم دمه، وبعضهم قدّم ماله، وبعضهم ناضل بفكره في صراع طويل وضارٍ على الوعي والذاكرة جرى جزء منه مباشرة مع المستعمر، وجزء آخر مع عملائه من مخبرين محليّين وضعوا “عدّتهم” الفكرية، دنيا ودين، في خدمة أعداء وطنهم وأهلهم بحثاً عن كرسي هنا ومكسب مادي هناك.
ولأن الصراع على الوعي اليوم هو على أشدّه، وطريقه الأساس تحطيم الرموز والقيم وغزو العقول والنفوس، فقد شهدت الحرب الأخيرة على سورية أحداثاً محدّدة في شهر نيسان الاستقلال وتحديداً مع اقتراب اليوم السابع عشر منه باعتباره اليوم الوطني الجامع في الذاكرة السورية، ففي مثل هذه الأيام منذ نحو ثماني سنوات استضافت باريس، ذاتها، اجتماعاً للجنة العقوبات في ما يسمى “أصدقاء سورية”، في محاولة واعية مقصودة لاستباحة الذاكرة الوطنية الاستقلالية وطمسها، واستبدالها بذكرى أخرى ورمز مختلف، يستعيد تلك الجملة المفتاح: “ها قد عدنا يا صلاح الدين..!!”.
وهذا العام، وفي التوقيت ذاته تقريباً، خرج علينا يساريون “تائبون” من “مناهضي الإمبريالية الديمقراطيين التقدميين”، كما يصفون أنفسهم، ببيان بلاغي عن الانسان وحقوقه وضرورة نصرة الشعوب المستضعفة، لكنه، في الجوهر، ليس له سوى استعادة ذكرى “جمعة التدخل الخارجي” في استجداء ذليل لعودة هذه الإمبريالية التي يدّعون مناهضتها!!.. إلى احتلال سورية بحجة نصرة شعبها!!، متذرّعين بعدّة فكرية ضحلة وبائسة يمكن التعرّف على نوعيتها من خلال نعتهم كل من يعارضهم بصفة “عديم المبادئ” و”الأحمق” لأنه لا يعرف أن “الولايات المتّحدة الأمريكية غير مركزيّة في ما حصل في سورية”، بحسب ما يقولونه حرفياً، وبالتالي هي بريئة براءة الذئب من دم يوسف، وأكثر من ذلك، يدّعي أحدهم، في سياق محاولته تطمين السوريين من مغبة ونتائج هذا التدخل، قدرته، وأمثاله، على “المطالبة بحصر مشاركة، هذه الإمبريالية، بأشكال تحدّ من قدرتها على فرض هيمنتها على الذين تدّعي إنقاذهم”، وتلك جرأة ما بعدها جرأة من مخبر محليّ صغير يعتقد أن بإمكانه السيطرة على سياسة دولة عظمى، وذلك وهم قاتل يذكّرنا بوهم “النخبة” الفكرية العراقية التي تقدّمت جحافل الدبابات الأمريكية وهي تقتحم بغداد مرسلة تطميناتها ذات الشمال وذات اليمين والنتيجة هي ما نراه اليوم.
إنها حرب شرسة على الوعي تقودها ثلة من المخبرين المحليّين من فئة “أبي رغال” محاولين فتح أبواب المدينة للمستعمر الجديد برضا أهلها الكامل، متجاهلين حقيقة أن ثلة الوطنيين السوريين، بقيادة يوسف العظمة، الذين اتخذوا قرارهم بالمواجهة العسكرية مع المستعمر الفرنسي، رغم علمهم بنتيجتها الحتمية، لم يكونوا بذلك يعبّرون عن موقف حماسيّ جاهل، بل كانوا، بموقفهم البطولي هذا، يرفعون مدماكاً في بناء الوطنية السورية أساسه الإصرار على الاستقلال رغم الوعي الكامل بكلفة المعركة وشراستها.