الأخطاء الكارثية تدفع أردوغان نحو الهاوية
د. معن منيف سليمان
بدأ رئيس النظام التركي رجب طيب أردوغان يقلّص من رصيده السياسي والدبلوماسي والاقتصادي بفعل سوء سياساته في الداخل والخارج، ففي الداخل توجّه نحو الاستفراد بالسلطة، فجمع بشخصه سلطات رئيس الدولة ورئيس الوزراء ورئيس الحزب الحاكم، في سابقة لم تعهدها قواعد الحكم في تركيا، واعتراضاً على سياساته التي أدخلت البلاد في نفق مظلم، شهد حزبه انشقاقات كبيرة متتالية، وشهدت البلاد انقلاباً عسكرياً للإطاحة بحكمه في صيف 2016.
أما في الخارج فقد أوغلت إدارته في صراع مع عدد كبير من دول الجوار تعدتها إلى دول بعيدة، وتورطت في ملفات صراع سياسي وعسكري، استنزفت تلك السياسات الاقتصاد، وسارت على عكس ما تعلّمته النخب التركية قبل قرن تقريباً عندما قررت تحت قيادة مصطفى كمال أتاتورك أن تحافظ على حدودها، وتمتنع عن التدخل في شؤون الغير، وتبني تجربتها الخاصة النافعة لشعوبها بعد حروب مريرة مع الجوار، لكن أردوغان ضرب بتلك المبادىء عرض الحائط واحدة تلو أخرى في توجّه شعبوي، يتنقل من ملف إلى آخر مرتكباً أخطاء كارثية تدفع به نحو الهاوية، وتعجّل بانهياره.
شرع أردوغان بالتخلص من رفاقه القدماء الذين انفضوا من حوله، مجموعات وأفراداً، وتوسعت الاعتقالات لكل من يرفع الصوت معارضاً، وعلى وقع ذلك شهد حزب العدالة والتنمية الحاكم انشقاقات كبيرة ومتتالية عندما أعلن رئيس وزراء تركيا الأسبق أحمد داود أوغلو انشقاقه بعد انشقاق نائب رئيس الوزراء السابق علي باباجان الذي انشق عن العدالة والتنمية، وأسسا حزبين جديدين.
دأب داود أوغلو على توجيه انتقادات حادة لأردوغان، على خلفية الانشقاقات الكبيرة التي شهدها الحزب بسبب السياسات التي يتبناها الأخير ورجاله، وكشف أخطاء أردوغان، وفضح علاقته العضوية الوطيدة بتنظيم الإخوان الإرهابي، وشدد على أن “القيم الأساسية لحزب العدالة والتنمية قد تغيرت”، ويتبنى الإخوان أجندة أنقرة لإحياء الدولة العثمانية البائدة، فيما يعمل أردوغان على نشر فكر الجماعة ببلاده لتوافقه مع حملاته التوسعية.
لقد عزم أربعون نائباً من الكتلة البرلمانية للعدالة والتنمية على الانضمام لحزب باباجان، ويُرجعون اتجاههم بهذه الخطوة إلى إصرار أردوغان على سياساته الكارثية في المجالات كافة.
من ناحية أخرى، يخاطر أردوغان بتبني سياسات نقدية خاطئة تدفع اقتصاد بلاده إلى انهيار كبير، فقد ارتكب أردوغان عدة أخطاء جوهرية أدت، ضمن أسباب أخرى، إلى استمرار تهاوي قيمة الليرة مقابل الدولار، وتراجعها بمعدلات قياسية بلغت نحو 30 بالمئة خلال الأعوام المنصرمة، خاصة عقب تفشي وباء كورونا، وتأثر الأنشطة الاقتصادية في البلاد بهذا الوباء، مثل الصادرات والسياحة والسفر والاستثمارات الأجنبية.
أصر أردوغان على خفض سعر الفائدة على الليرة، في الوقت الذي كانت فيه العملة التركية تواجه عمليات مضاربة محمومة من قبل أطراف محلية وإقليمية ودولية سعت، ولاتزال، إلى إحداث فوضى في سوق الصرف التركي، وإشاعة ذعر المستثمرين، خاصة الأجانب وأصحاب الأموال الساخنة، وكذلك إثارة ذعر المدخرين المحليين الذين يرون أن مدخراتهم بالبنوك تتآكل يوماً بعد يوم، وقد أثار ذلك انسحاباً سريعاً لرأس المال الأجنبي، حيث ابتعد المستثمرون عن تركيا خوفاً من اقتصاد لم يعد تحكمه قواعد، تم تجاهل العديد من الاقتصاديين الذين حذروا من تأثير هذه الخطوة على المدى المتوسط والطويل من قبل الحكومة التي وصفتهم بدلاً من ذلك بأنهم عملاء للقوى الأجنبية، أو ما يسمى بـ “لوبي سعر الفائدة”.
منذ ذلك الحين، تسعى حكومة أردوغان إلى تحقيق النمو الاقتصادي كأولوية رئيسة، ولكن مع إبقاء رأس المال الأجنبي بعيداً، اضطرت إلى البحث عن الأموال العامة لتمويل هذا النمو، وأدى ذلك إلى تحويل جزء كبير من أموال احتياطي البنك المركزي إلى الخزانة، وضاعف نسبة عجز الميزانية إلى الناتج المحلي الإجمالي، ما أدخل الاقتصاد التركي الآن في دوامة عميقة من البطالة والانكماش، ولا شك أن أسباب خسائر الليرة تعود إلى إدارة الاقتصاد بشكل سيىء للغاية من قبل المسؤولين غير المؤهلين لتشغيله، ولذلك فإن حكومة أنقرة لن تجد أي مصادر تمويل، ولن تحقق أي نمو، ولن يكون لها مستقبل، وستغرق في أزمة.
يواصل الأتراك دفع فاتورة سياسات نظام أردوغان، فقد كشف استطلاع رأي عن ارتفاع عدد الشباب التركي الذين يشعرون بالإحباط وعدم الرضى عن حياتهم بسبب الأوضاع الاقتصادية المتردية، وممارسات نظام أردوغان، وقد ذكرت صحيفة “أفرنسال” التركية المعارضة أن القاسم المشترك في أحاديث المواطنين الذين التقتهم باسطنبول عند منافذ البيع هو انتقاد النظام الحاكم وسياساته الاقتصادية غير المجدية، والتذمر من ارتفاع أسعار المنتجات، ورسوم الكثير من الخدمات بشكل أثقل كاهلهم.
مجموعة من الأخطاء شكّلت ظاهرة لتصرفات أردوغان، من تحويل متحف أيا صوفيا إلى مسجد عام 2020، إلى انسحاب من أحد أهم الاتفاقات الدولية الإنسانية عام 2021: اتفاقية المجلس الأوروبي لمنع ومكافحة العنف ضد المرأة والعنف المنزلي.
خارجياً أوغلت إدارة أردوغان في شجار وصراع مع عدد كبير من الدول العربية، ولم تشهد العلاقات التركية العربية في العصر الحديث تصدعاً كما تعيشه في عهد أردوغان المسكون بنزعة العظمة، وإعادة أمجاد الامبراطورية العثمانية، والمتسلّح بعقيدة التنظيم الدولي لجماعة “الإخوان المسلمين”، والمدعوم من قبل الولايات المتحدة، والتوافق مع إسرائيل على اقتسام النفوذ في الوطن العربي، والذي أبى إلا أن يضرب جذور تلك العلاقات الإيجابية، وينقض على النظرية السياسية الدبلوماسية التي رفعتها حكوماته المتعاقبة منذ 2002، وهي “تصفير المشاكل” مع دول الجوار الإقليمي والعالم، معتقداً أن الشروط الجيوسياسية في الإقليم باتت مهيأة وناضجة لغزو دول الجوار في قارتي آسيا وأفريقيا مع اندلاع شرارات ما يسمى “الربيع العربي” 2011 التي فتحت شهيته، وأيقظت نزعاته الامبراطورية، لاسيما أن من قادها فروع جماعة الإخوان في مصر وتونس وليبيا وسورية والمغرب والسودان، وهدف التنظيم الدولي للجماعة من ذلك تحطيم كل المقدسات، وأولها القضية الفلسطينية بهدف تمزيق الورقة الأهم والجامعة بين العرب.
في ضوء ذلك، قام بالتدخل في العراق، خاصة في شماله، ثم اتجه صوب سورية وتورط فيها من خلال دعمه للقوى الإرهابية التكفيرية، وناصب مصر العداء بعد الإطاحة بنظام الرئيس الإخواني محمد مرسي 2013، وفي ليبيا تورط بدعم فريق إخواني على حساب فريق وطني، وأخيراً في اليمن عن طريق إرسال محاربين مرتزقة للقتال ضد اليمنيين، وفتح أردوغان أبواب بلاده على مصراعيها أمام الجماعات الإرهابية، كما وفّر لهم منصات إعلامية لبث رسائل مغرضة ضد دول يعاديها، فضلاً عن إقامته قواعد عسكرية في قطر والسودان والصومال وجيبوتي لتوسيع نفوذه الإقليمي، وعلى حساب الدول والشعوب.
إن الفساد والظلم سيسقطان العدالة والتنمية، وأخطاء أردوغان الكثيرة والمتكررة ستعجّل بانهيار نظامه ودفعه نحو الهاوية.