رمضان وتقوى الروح
“البعث الأسبوعية” ــ سلوى عباس
في زمن تزدحم فيه الحياة وتغرقنا في تفاصيلها، نركض ونركض ولا نلوي إلا تعبا يجعلنا في منأى عن لحظة نقترب فيها من أرواحنا، نتنسم عبق وجودنا لنستطيع بعدها مواصلة لهاثنا وركضنا للحاق بأعباء أثقلت كاهلنا، نرى أنفسنا على مفترق الحياة كما شجرة تهزها الريح مرة ذات اليمين ومرة ذات الشمال، يهلّ علينا شهر رمضان بهلاله، لينشر بشائره في نفوسنا، ويمسح عن أرواحنا ما تراكم عليها من صدأ الأيام، وغبش العتمة التي تحجب عن قلوبنا نور الحق والحقيقة، فكما تعلّمنا في أبجدياتنا الأولى أن للصيام أثره العظيم في تطهير النفوس من الضغائن والأحقاد، وإشاعة السلام الداخلي في ذواتنا، يعوّدنا على الصبر والإرادة، وتحمّل الشدائد ومتاعب الحياة.. هو شهر الصحة الجسميّة والنفسيّة والروحيّة.
وتتجلى حكمة الصيام – كما عَهْدِنا – بالتقوى التي هي صفاء في الشعور، وشفافيّة في النفس، ومراقبة دائمة للّه تعالى وحذر من عقوبته، وتجنّب المعاصي والذنوب، فالتقوى هي التي تحرس القلوب من إفساد الصوم بالمعصية، وهي غاية تتطلّع إليها أرواح الناس جميعا.
أمّا من الناحية الاقتصادية وفي ظل الارتفاع الجنوني للأسعار يفترض أن للصيام أيضا فوائد كثيرة من حيث أنّ اختصار وجبات الطعام اليومية من ثلاث وجبات إلى اثنتين فرصة مناسبة لترشيد الاستهلاك، لكن ما نراه في أيامنا هذه أنه في شهر رمضان يزيد المصروف والنفقات على الطعام، فبدل أن يفطر الصائم على طعام خفيف، نرى الوضع مختلف عن السابق إذ يقضي الصائم يومه كاملا في إعداد مائدة الإفطار، ومن ناحية اقتصادية بحتة، فإنّ الإنفاق بإسراف لا يتناسب مع الدخل الذي يحصل عليه المواطن مما يجعله بحاجة لإعادة النظر في جدول إنفاقه ليكون أكثر توازنا.. ومع تطور أشكال الطعام ومفردات الكلام أصيب رمضان هذه الأيام بالتخمة وأصبح يأتينا مصحوبا بحمى الأسعار ونار السوق التي تحرق كل شيء بدءا من أحلام الفقراء وانتهاء بجيوبهم فهناك الآلاف من الجلادين الذين ينتظرون هذا الشهر بفارغ الصبر ليمارسوا وسائل تعذيبهم على كل ذي حاجة.
سقى الله أيام زمان عندما كان رمضان يأتينا سليما معافى حاملا معه الكثير من الودّ والحبّ والتسامح تجري في عروق أيامه الرحمة والإحسان ويعمّ فيه الخير لأنه- وفي ذلك الرمضان- لم يكن الصائم يتوجه فيه إلا للعبادة وصفاء النفس فكانت ساعة الإفطار حفلا حقيقيا أبطاله حبة تمر والقليل من الطعام وليس كما نرى اليوم أنّ مايرمونه من كميات الطعام التي تزيد عن موائد الإفطار العامرة يكفي لإطعام حارة صائمة لزمن طويل.
لقد اختلف رمضان الآن عنه في القديم، فقديما كان الناس يعيشونه أسرة واحدة، يجتمعون على الخير والبركة، والتكافل الاجتماعي بكل أبعاده، فلا يشعر أحد بوطأة الظروف الاقتصادية التي يتشارك الجميع في تحمّل أعبائها، وكان الجيران يجتمعون كل يوم عند إحدى الأسر يتناولون الإفطار ويتسامرون، ويشكرون الله على نعمه برضى وقناعة، وكانوا يتبادلون أصناف الطعام فيما بينهم، أما الآن فقد اختلفت الظروف وتغيرت النفوس، فالناس شغلتهم الحياة بتفصيلاتها، وأبعدتهم عن بعضهم، وطغت القيم المادية على القيم الروحية، إذ أصبحت المادة هي المحرك الأساسي لحياة البشر ينظرون للدنيا بهذا المنظار فقط، وهناك أيضا البعض ممن يصومون يقضون وقت الصيام كله بمزاج عكر وعصبي وكأنه يصوم للناس وليس لنفسه، وليس هذا فقط بل يحاول أن يشغل نفسه ومن حوله بأشغال متعددة ليمرر الوقت ويقرب موعد الإفطار، كما أصبح رمضان بالنسبة للكثيرين سببا للتسيّب والتكاسل بحجة أنهم صائمون والدنيا رمضان…!
اليوم وبحلول الشهر الكريم كل الأمنيات الجميلة أن يكون شهرا مباركا للناس جميعا وبهذه المناسبة الكريمة أهمس لكم وبكثير من الودّ: احذروا أن تتركوا جروحكم تلتئم على ألمها، بل نظفوها لتكون مرآة صادقة عن قلوبكم، وابتسموا وسامحوا من أساء إليكم وتمسكوا بأحبتكم جيدا فغدا قد نكون جميعنا ذكرى، ولكل الذين أحبهم أقول: ليس أجمل من أن تَهب الحياة للإنسان ياسمينة يسند إليها روحه، وأنا الياسمين معرش على شرفات قلبي وروحي خمائل محبة ووداد.