مجازات الشعر وجمالياتها في “برتقال أسود”
الذي يلفتنا أولاً في المجموعة الشعرية الرابعة للشاعر والإعلامي علي فرحان الدندح عنوانها “برتقال أسود”، وإذا كانت العناوين “ثريات” النصوص فإن ثريا هذه المجموعة المطفأة ظاهراً، متوهجة مضيئة ضمناً.. فالسواد استعمال مجازي لا يلغي حالة التوهج والإضاءة المستقرة في لون البرتقال وطزاجته، بينما حالة السواد هي حالة مؤقتة طارئة بسبب أو بغيره، ولذلك فإن الأولى أن تكون مع الدائم لا مع العارض. ولذلك يصحّ قول مقدّم المجموعة الشاعر والناقد علي جمعة الكعود: “برتقال أسود يشي بوجوه بيضاء يرسمها الشعر بريشة مبشّرة بأمل قادم يعزفه الشاعر على قيثارة الحلم”، وقد تكون هذه الوجوه البيضاء هي المعادل الموضوعي الذي يلغي صفة السواد عن البرتقال لترتسم وجوه الفرح الأبيض، الفرح الدائم بمستقبل زاهر، ولعلّ هذا القول يجرنا إلى تصور بعض النقاد ودارسي الشعر الذين يرون أن للشعراء منافذ يبصرون منها بعقولهم وأفكارهم، ويرون الحاضر والماضي والمستقبل، لكن ما هو شأن المستقبل، وكيف يبصره الشعراء؟!، والمستقبل أحداث مكتوبة على صفحات الغيب لا يعلمه إلا الله وحده!.
إذن، في الأمر سر، فما هو هذا السر الذي يجعل الشاعر يخوض في عالم المستقبل، أو يحلّق برؤاه بين طيوفه وأحداثه التي يتخيلها.
إن رؤى الشاعر للمستقبل إن هي إلا تصورات وتنبؤات يبصرها ويحسّ بها قبل حدوثها، فهو وحده الذي يتعامل مع الخيال ويتعامل أيضاً مع الفكر، ومع العقل بالقدر الذي يجنّبه السقوط في بؤرة المحسوسات أو بالقدر الذي لا يتركه الجنوح إلى عالم اللامعقول، والشاعر هو من منحته الطبيعة الملكات والقدرات التي تتيح له أن يتجاوز بحدسه حدود الحواس الطبيعية التي يمتلكها الإنسان العادي، ويتخطى برؤيته ظواهر الموجودات، ويتغلغل إلى أعماق أسرار الكون والحياة، مما يجعله متفوقاً على علماء الفلك، في القدرة على سماع همسات النجوم والتقاط إشارات الكواكب وتلقي رسالتها الضوئية المشحونة بالمعاني والرموز.
تحتشد قصائد الدندح بصور من المجاز أثرت أسلوبه ولوّنت قصائده، ففي قصيدة “زعفران اليقين” نجد أن الزعفران نبات بصلي عطري معمّر من الفصيلة السوسنية وهو محسوس بينما اليقين غير محسوس، ونجد الشرفة والإصغاء والمهجة والطين والدم والرصيف، المنديل والخيال، العصيان والريح، الأوردة والمنى، قرص الشمس والدف، الجرف والصدى، الدم والعنقود، الشرفة والارتجال. هذه المجازات في نص واحد من نصوص الدندح الشعرية التي بلغت في مجموعته هذه (30) نصاً.
وإذا كان الأسلوب هو الشعر، فالمجاز هو الأسلوب، فنحن في الشعر نرمز ولا نخبر، والشعر يبدأ من نقطة مجازية، أي أن رؤيته للحياة هي رؤية فوق الرؤية المباشرة الحرفية الواقعية، الشعر يتجاوز الواقع فيضرب بجذوره في اللاوعي البشري العميق، وقد يتجاوزه بالوقوع بعده فيلتحق بمستقبل الإنسانية غير المنظور، محققاً بذلك وظيفة الشاعر القديمة المحدثة، وهي أنه متنبئ ورائد لطريق البشرية، وقد يتجاوزه بالوقوع إزاءه، ولكنه بحكم مجازيته لا يمكن أن يكون صورة دقيقة له.
الشعر إذن هو المجاز والمجاز هو الشعر، والشعر الذي يدّعي لنفسه واقعية بالمعنى القاموسي للكلمة يقدّم اعترافاً قاموسياً اختيارياً بأنه ليس القلب النابض لكل جوانب المعرفة المفضية إلى الحقيقة، وعلينا أن نتحرك دائماً في فهم الشعر من المشير إلى المشار إليه عن طريق القراءة اللغوية الفاحصة للقصيدة. ومن جميل مجموعة الشاعر الدندح صوره الشعرية التي انبنت عليها قصائده، ومنها صوره الواردة في قصيدة “صدأ” يقول:
حين يعطر صوتك أجنحتي/أخرج للشمس فراشاً/يراودني حلم الطيران!/لكن..!/حين يدقّ النبض بصدري: يرتعش الحب الأول/من صوتك كي أكتب
نص العشق على الزهر المشغول/بقوس الألوان/أحيا في العصر الماضي/والآتي/والقادم/كي أرسم لوحة روحي/باللون الهارب/من ريشة فنان.
تعدّ الصورة الشعرية عنصراً أساسياً في بناء قصيدة النثر، ومن أهم وظائف الصورة الشعرية أنها تساعد على تقريب الرؤية الشعرية من الواقع وعلى تحريك مشاعر القارئ كلها لا عقله فقط، كما أن التعبير بالصورة المجسّدة يكسب القصيدة حركة وغنى، وهو إلى حدّ ما يؤنسن الفكرة، أي يوجد لها كياناً مستقلاً فريداً، ونجد في بعض قصائد الدندح أسلوب القصّ في بناء القصيدة، كما في قصيدة “تخثر” وفيها يقول:
يمضي من الخوف ظهراً/ويمضي إلى السوق/يحمل أوراقه وخطاه/ويسأل: منذا يقاسمني الجوع/والشعر والصعلكة!/من يعلمني لعبة مبهمة؟/يفيق من الشعر ظهراً/ولا يتوسد إلا الحذاء/يطير أحرفه/يتساءل: هل يوشك الماء أن يتخثر في رئة النهر.
وبعد.. فهذه قراءة سريعة في مجموعة “برتقال أسود” للشاعر علي فرحان الدندح الذي أرجو له تواصلاً حميداً مع القصيدة النابضة والموحية في خضم السيل المتدفق، ليحقّق لصوته الشعري ما يرجوه من تواصل القراء مع القصيدة المرفرفة بجناحين.
طلال سالم الحديثي