مشعل اليمّ ميم الأمّ
غالية خوجة
ترى، هل ما زال بيننا من يعتقد أن الأم تضحية؟ وكيف لمثله أن يوقن أن الأمّ ليست أضحية على المذبح؟
لنرحل معاً إلى اسم “حواء” ودلالاته بدءاً من حرف الحاء بشفافية لفظه، وإيحاءات كنايته عن الحب والحنان، وموسيقاهُ المتوازنة مع النبضات، مروراً بحرف الواو الذي يضم بأجنحته الرقة والعطف واللهفة، بينما حرف الألف يمتد إلى ما لا نهاية وهو يتألف من نقاط محزومة متراصة شامخة، وتختتم الاسم الهمزة وهي الحرف الأخير من حروف الأبجدية لتكون المنتهى المختلف وهو يتشكّل معها بما يشبه حالة الإنسان أثناء السجود، وهي حالة مولوية، صوفية، تستغرق من الإنسان أن يستغرق في ذاته ليتواصل مع الله دون ذرة شرود.
وتقابل هذه الدلالات كلمة “أمّ” التي تشمل دلالات اسم حواء، ما ظهر منها وما بطن، كما تؤكد من خلال ابتدائها بالألف المهموزة إلى مواصلة ما انتهت به الدلالة الرمزية والمعنوية والروحية لهمزة “حواء” والامتداد اللا متناهي، مع حالة ادغامية بين الواو والميم، كون الميم واواً مقلوبة فيما إذا تأملناها منعكسة، والميم حرف يضم مُجمَلَ دلالات الضم والحضن والمحبة والرحمة والرهافة لو تعلمون.
وكلمة الأم مرايا تتضمن بمعنى خفيّ ما، ومعنى مجهول ما، الألم، والأمل، واليمّ الذي لا ينتهي غوصاً في الأعماق، وتمدداً في الآفاق، فتذكره الأساطير الإنسانية منذ مطْلعها ومطالعها ليكون “ماموـ ممّو”، ويظل مضموماً في لفظة “ماما” منذ الأمّ الأولى إلى الأمّ الأخيرة، بينما تمنحنا نبضاتها أول موسيقا نسمعها، وأول خرير لأرواحنا التي اطّلعت على الحضور في الوجود واللاوجود، فسبحان الذي جعل “من الماء كل شيء حي”.
تذكر الحضارات الأمهات ومنها أمّ “بعل” التي قادته إلى زراعة سنابل المحبة والسكينة والأمان والسلام، وأمّ “جلجامش”، وأمّ آلهة الأولمب، و”ثيتيس” أمّ “آخيل” التي بدأت مع ملحمة هوميروس الإلياذة والأوديسا، و”إيزيس” أمّ الفراعنة، و”هيليث” التي كانت أول من هدهدت أولادها بالأناشيد ليصابوا بالنوم الهادئ والأحلام، وهي القمر بكافة دلالاته وأسمائه العربية والأجنبية، والذي يحكم بأشعته وجاذبيته تحوّلات المدّ والجزر، وكذلك نبض الإنسان لأن دمه سائل كالماء.
الأمّ آلام تمشي على قدمين، أو تجلس على كرسيّ متحرك، أو تتمدد على سرير المرض، أو تدعو لنا حتى وهي في مثواها الأخير، أو تكمل مسيرة بناء الوطن والحياة، الأمّ شهيدة على قيد الحياة، فكيف إذا كانت أمّاً للشهداء؟ وكيف نتنافس لنشعل لها أرواحنا، أوليست هي الوطن أيضاً؟ وطننا سوريتنا الحبيبة أمنا الكبرى وأمّ الحضارات، وابنتها “أوروبا” شقيقة الأمير الفينيقي قدموس، المختطفة منذ أساطير، لتبذر حضارتها هناك، وكذا، قبرص إحدى بناتها، إضافة إلى الملكات والإمبراطورات والأميرات السوريات اللواتي نزحن بمسارات المكان الذي كنّ فيه إلى الضوء الأكثر إشراقاً.
ولو لم يدرك كل من باحث الآثار شارل فيرلو، ومدير معهد اللوفر السابق أندريه بارو، هذه الحقيقة، لما أكّدا للعالم: “لكل إنسان متحضر في هذا العالم وطنان وطنه الأمّ وسورية”.
الأمّ فينيقنا الدائم الاشتعال والانبعاث من رماده وحرائقه وريشه وآلامه، الذي يهب الموت حياته الأخرى، فيخضوضر بنيرانه، ويبثّ اخضرار النار في تصيّراته وتصيّرات الطبيعة والعالم، مما يجعله رمزاً للانتصار الدائم على الظلام وأخوته، لأنه أزل الضوء وأبديته العابرة للحياة من أبواب القيامة وهي تردد معنا: لكل إنسان أمٌّ واحدة، وأنا لي أمّان: أمّي وسورية.