كتاب الجلاء الثقيل
حسن حميد
كثيرة هي الأسئلة التي تناوش المرء كلما توقّف أمام ظاهرة دنيوية لا تخلو من العجائبي والأسطوري، سواء في أحداثها أم معانيها أو ما تتركه من آثار لا تمحوها الأزمنة كيفما دارت وحلّت، ومن هذه الأسئلة السؤال القديم/ الجديد، ما الذي جعل رجلاً من أهل المكانة والجاه والحضور، مثل يوسف العظمة، يبادر إلى مواجهة جيش فرنسا الذي أراد احتلال سورية، وهو يعرف قوة هذا الجيش الذي خرج من الحرب العالمية الأولى منتصراً؟! ولماذا صمَّ أذنيه عن كل قول ونصيحة ورجاء باح بها وقالها له زملاؤه في الحكومة، وقالتها له زوجته في البيت حين أعلن عزمه وأبدى تصميمه على مواجهة جيش فرنسا؟!، وكيف لم تفعل العاطفة فعلها به، وهو يرى ابنته الصغيرة تلعب وتضحك نهاراً، وتغفو طيّ أحلامها ليلاً.. كي يكفّ عن عزمه وتصميمه على مواجهة العدو الفرنسي.. من أجل أن يبقى قربها؟!.
ولماذا يغادر شيخ جليل مثل صالح العلي له مهابته الاجتماعية والدينية ليذهب إلى الأودية والكهوف والمغر ليعيش فيها كي يواجه قوات الفرنسيس التي نزلت في الساحل السوري؟!.
ولماذا يغادر أمير وجيه مثل سلطان باشا الأطرش عزه ومجده الاجتماعي والديني ليسكن اللجاة من أجل مواجهة قوات الفرنسيس؟!.
ولماذا يترك محام له سمعته وقدره مثل إبراهيم هنانو مكتبه والمحاكم التي يرافع فيها، ويسكن البراري من أجل مواجهة قوات الفرنسيس؟!.
ولماذا يغادر رجل صاحب حضور وحول وطول مثل الشيخ محمد الأشمر داره وعزوته في الميدان ويذهب إلى الغوطة، فيحفر الخنادق، ويقيم الحصون والمتاريس من أجل مواجهة قوات الفرنسيس؟!.
ولماذا تتساوى الروح الوطنية والعزة والكبرياء ما بين الأمير صاحب الجاه، والشيخ الجليل، والقائد الوزير، والحارس الليلي للأسواق في لحظة وطنية واحدة، وفي وقفة وطنية واحدة هي مواجهة قوات الفرنسيس؟!.
ولماذا فعل رجل هامة مثل أحمد مريود في الجولان الحبيب ما فعله الآخرون من بطولات في غير منطقة في سورية؟!.. ولماذا فعل رجل صاحب صيت ومكانة عشائرية كبيرة وواسعة مثل ضاهر شلاش في وادي الفرات ما فعله الآخرون من مآثر عزيزة في مواجهة قوات الفرنسيس؟!.
الإجابة واحدة، ومطلقة، قالها التاريخ السوري الغني العظيم.. إن شرف مواجهة قوات الفرنسيس أعلى وأكبر وأهم وأنبل من مقامات الوزارة، والأميرية، والجاه الاجتماعي، والمرافعة لدى المحاكم، أو تدريس العلوم.
لأن الارتجافة الاجتماعية التي أحدثها دخول المستعمر الفرنسي للأراضي السورية ساوت الجميع في الشرف الوطني للدفاع عن الأرض والتاريخ والناس والقيم النبيلة، ولهذا كتب الفرنسيون في كتبهم: لم نعش يوماً هنياً واحداً فوق الأراضي السورية طوال ربع قرن.. لقد واجهونا بكل ما يمتلكونه من قوة وشجاعة، وهم من جعلونا نخرج رغماً عنا!.
لهذا كلّه، وعبر هذه الملحمة الوطنية التي اجتمع على كتابتها الوزير والأمير والشيخ الجليل والحارس الليلي، نقول إن كتاب الجلاء، كتاب ثقيل في معانيه، واسع في أحداثه، شاهد في بطولاته الماجدة على أفعال الأجداد والآباء التي ورثها الأحفاد فتصدّوا لكل كريهة، نزلت بأرض سورية العزيزة، إنه كتابهم/ المرآة وفيهما تبدو وبجلاء واضح كيف تكتب قصص الحياة والمجد، وكيف يدافع الأحرار عن أوطانهم، وكيف تُصان الأعراض، وكيف تكتب الدروس الذهبية، وكيف تعلو القيم راياتٍ خفّاقة.. كثيرة الظلال!.
Hasanhamid55@yahoo.com