تنامي الاضطرابات النفسية خلال الحرب.. وغياب الإحصائيات الدقيقة لا ينفي الارتفاع
دمشق – لينا عدرة
انتظار طويل أمام الفرن للحصول على ربطة خبز كان كفيلاً لتعرض أحد المرضى المُشخصين “مرضى اكتئاب” لانتكاسةٍ، وسبباً مباشراً في تراجع وضعه النفسي، ليقرر بعدها شراء خبز التنور ليطعم أطفاله، بعد أن عاد خائباً من دون خبز، ولأن كمية الخبز التي اشتراها لم تكفِ، وبسبب تعرضه لصدمةٍ قوية أشعرته بعجزه عن تأمين الخبز لعائلته، فقد الأمل متمنياً الموت، ليتخذ بعدها قراراً بالاكتفاء بحبتي تمر طيلة اليوم وبشكلٍ دائم! هي حالةٌ من بين حالاتٍ كثيرةٍ تُراجع قسم الأمراض النفسية في مشفى المواساة في ارتفاعٍ ملحوظ بأعداد المرضى.
اضطراب الشدة
عدة دراسات تحدثت عن تبعات وظروف وآثار الحرب من الناحية النفسية، ولكنها وحسب ما أكد الدكتور أنس بدور “طبيب في قسم الأمراض النفسية في مشفى المواساة” غير كافية، معتبراً أنه من الضروري إصدار دراسة جديدة كل فترة تتحدث عن آثار الحرب، خاصةً وأننا في حربٍ مستمرة منذ عشر سنوات، حربٌ ما من شك أنها أثرت بشكلٍ كبير على العامل النفسي، موضحاً أنه وبشكلٍ عام في الظروف القاسية، أو في حالات الحروب، الاضطرابات الأساسية التي من الممكن أن تتحرض، وبالتالي يكون لها تأثير كبير ومباشر على الناحية النفسية هي الاضطراب الاكتئابي واضطرابات “القلق” واضطراب الشدة ما بعد الرض، وهذا ما تمت ملاحظته بشكلٍ كبير من خلال الحالات التي وصلت للمشفى، مضيفاً أن أعراض متعددة ترافق الاضطرابات السابقة، كانخفاض المزاج الدائم وفقد المتعة الذي يؤدي إلى فقدان رغبة الشخص تجاه أي أمر ونقصان الشهية، إضافة إلى اضطراب النوم وعدم التركيز والتي يكون سببها معاناة الشخص من اضطراب الاكتئاب، وصولاً لمرحلة يتمنى فيها الموت أو قد يفكر بالانتحار، ليكون الاكتئاب بذلك أحد أهم أسباب الانتحار، حيث أن العامل الأساسي المرتبط بالانتحار غالباً ما يرتبط به اضطراب نفسي سابق له، بينما تتمثل مجموعة الاضطرابات القلقية “بالخوف الزائد غير المبرر والمستمر، والقلق من أي تفصيل حياتي يومي بسيط”، أضف إلى ذلك اضطراب الشدة ما بعد الرضّ، وفي حقيقة الأمر تعرض معظم المواطنون لرضوض عنيفة “موت أو انفجار أو اعتداء أو خطف” لتساهم كل هذه العوامل بتحفيز ظهور الشدة ما بعد الرضّ، والتي تجعل من الشخص رهينة ذكريات مؤلمة، يصاحبها كوابيس، مترافقة بأعراض أخرى، أضف إلى ذلك ظهور اضطرابات أخرى هي الاضطرابات الذهانية التي ترتفع نسبة الإصابة بها أثناء الأزمات كالفصام، ومن أعراضها أن يخطر للمريض أفكار غير موجودة وغير متوافقة مع الجانب الثقافي والديني والاجتماعي للمريض، كأن يخطر له أن أحد أفراد عائلته أو أصدقائه سيقوم بإيذائه، أو أحدهم يراقبه الخ، مؤكداً أن كل الاضطرابات السابقة زادت في فترة الحرب.
ازدياد الاضطرابات
يشير بدور إلى ازدياد نسبة الأشخاص المصابين باضطرابات نفسية بشكلٍ ملاحظ في الحرب، على الرغم من عدم توفر إحصائيات دقيقة أو أرقام مثبتة بالأدلة، ولكن ومن خلال المشاهدات السريرية نستطيع تأكيد هذه الزيادة، مقارنة بالسنوات التي سبقت الحرب، لتزداد مع كل عام سواء لمرضى القبولات أو للمراجعين في العيادات، مضيفاً أن هذه الزيادة لها عدة أوجه، فهي من جهة تشير إلى ازدياد الوعي تجاه الأمراض النفسية، ومن جهة أخرى تعكس مدى تأثير الحرب، إلى جانب التأثيرات السلبية التي نتجت عن فيروس كورونا، والتي ساهمت برفع نسبة القلق عند المرضى المصابين أو حتى عند أقربائهم، إلى ما هنالك من الأفكار الوسواسية، وربما من سوء الحظ اجتماع كل العوامل التي تسبب اضطرابات نفسية في بلدنا، وما تبعها من أزمات النقل والكهرباء والغاز والوضع الاقتصادي الصعب، فعلى سبيل المثال وقوف الشخص فترةً طويلةً وبشكلٍ متواصل، منتظراً دوره للحصول على البنزين أو أمام الفرن وعلى مدار يومي أو شبه يومي! من المؤكد سيؤدي بالنتيجة لعوامل نفسية.
ويرى بدور أن دور الإعلام ضعيف في نشر الوعي وتسليط الضوء على الصحة النفسية هذا من جهة، ومن جهة أخرى وزارة الصحة لا تعط هذا الجانب الاهتمام المطلوب، فعوضاً عن إغلاق مشافي الصحة النفسيةــ وهذا ما قامت به عند إغلاق مشفى ابن رشد في فترةٍ سابقة وتخصيصه لمرضى كوروناــ لا بد من زيادة عددها، لأن الصحة النفسية لا تقل أهمية عن الصحة الجسدية، مختتماً حديثه أن العامل البيولوجي أو الفيزيولوجي يمكن التخفيف منه عن طريق الدواء، ولكن تبقى الأمور الحياتية اليومية المتوقع أن تبنى عليها ردَّات فعل تكيفية طبيعية، هي التي لن نتمكن من التخفيف منها عن طريق العلاج لوحده.
بالعموم الصحة النفسية ليست ترفاً ولا رفاهية، ولتأسيس وبناء مجتمع سليم مُعافى، لا بد من إيلاء هذا الجانب كل الاهتمام، ومما لا شك فيه أن الحصار والعقوبات والحرب أثرت سلباً وبشكلٍ كبيرٍ، وعطلت دورة الإنتاج والاقتصاد، ولكن معالجة الأمور وتفاصيل الحياة اليومية للمواطن من قبل الجهات الحكومية المعنية بطرقٍ تستنزف طاقات الشعب، واختراعهم لحلولٍ عشوائية وعدم قدرتهم على حل أبسط الأمور، والتي وعلى سبيل المثال لا الحصر تلك المتعلقة بتنظيم دور للحصول على “ربطة خبز” زاد من الضغط النفسي على المواطن بشكلٍ مضاعفٍ، لا نبالغ إذا قلنا أنه جاوز الأثر الاقتصادي للعقوبات بحد ذاتها!.