نورسٌ آخر (1)
د. نضال الصالح
هل حقاً أنّ يد المنون تمكّنت أخيراً من محمد حسين بعد أن عاندها لأكثر من سنة؟ أنّه غادر هذه الساخرة بتعبير المعرّي عن الدنيا، فسخر منها قبل أن تسخر منه وهو على أعتاب الثامنة والخمسين؟ كيف لإنسان أصفى من الندى روحه، وأرقّ من نسمة خفق قلبه، وأعذب من ماء بلدته الشيخ سعد حرفه، أن يترجّل هكذا على غفلة من الصباح عن صهوة هذه العاجلة، الفانية، الذاهبة، الغَرور، وما عدّد المعرّي وما لم يعدّد من صفات عالم طاعن، أو يكاد، في سخريته من كلّ شيء؟.
قبل نحو ثلاث سنوات لم أكن أعرف عن محمد حسين سوى كونه شاعراً، وصاحب مجموعة يتيمة: “يا أبت، إني رأيت”، وإعلامياً أقرأ له بين وقت وآخر في صحيفتي “الثورة” و”الوطن”، وفيما كنت أستجمع مصادري لإنجاز كتاب نقديّ بعنوان: “سرديات الجحيم، الحرب في الرواية السورية”، عثرت على رواية بتوقيع محمد عنوانها: “الوحل، للحيطان آذان وذاكرة” صادرة سنة ألفين وسبع عشرة عن دار ورد في دمشق، ووجدتني أصرخ بصوت مسموع: “محمد حسين نفسه؟”، ثم: “كيف لم أعرف وأنا الذي يتابع كلّ شاردة وواردة تعني الحراك الثقافي في سورية؟”، وفور ذلك اتصلت بمحمد وتمنيت عليه أن يتفضّل بإرسال الرواية إليّ، حتى لو كانت بنسخة إلكترونية، فاستجاب خلال دقائق، وخلال ليلة بتمامها التهمت ما أبدع محمد في “الوحل” بينما أنا أردّد لنفسي بين وحدة سردية وأخرى: “أيّ إبهار هذا يا محمد!”، ثم وقبل أن يبزغ ضوء الفجر كنت أكتب رسالة قصيرة إليه، ثم لم أكد أفتح بريدي ضحى اليوم التالي حتى رأيت رسالة منه تفيض رقّة وعذوبة: “قد لا تصدّق، كان قلبي يرتجف وأنا أنقر على زر الإرسال… لن أنسى ما كتبته في رسالتك، فالكلمات محفورة في وجداني وتحمّلني مسؤولية..” إلى آخر ما ليس مقامه هنا وهو يعنيني.
وقبل نحو سنتين، وكنتُ خارجاً للتوّ من جحيم مواجهة مع الذات، تلقيت دعوة من العزيز هيثم محمد، مدير مكتب صحيفة “الثورة” في طرطوس آنذاك، للمشاركة في تقديم قراءة نقدية لرواية محمد “العتق”، الجزء الثاني من الثلاثية التي كان عقد العزم على إتمامها، خلال حفل توقيعه الرواية في المركز الثقافي، فلم أتردّد لأسباب ثلاثة: تقديراً لإبداع محمد الذي يليق الاحتفاء به وبروايته، ورغبة في التعرف إليه عن قرب، ومحبة واحتراماً للأعزاء الآخرين المشاركين في تقديم قراءات نقدية عن الرواية: أحمد م. أحمد، ومفيد عيسى أحمد، ويحيى زيدو، بالإضافة إلى لقاء الأعزاء هيثم وسلمان عيسى ود. خديجة حسين.
وفي الندوة التي جمعتني بهذه الكوكبة من الأصدقاء والمبدعين قلتُ ما اعتدتُ قوله من إخلاص للحقّ والحقيقة، ولاسيما ما يعني كفاءة محمد في بناء نصّ سرديّ مُحكم، بل باهر، على غير مستوى، ومن ذلك مغامرته في استثمار فلسفة التقمّص عبر غير شخصية، ومهارته في إدارة هذه المغامرة التي تدفع بالقارئ ليكون شريكاً فيها، بل متورطاً في محاولة تفكيكها وإعادة تركيبها خلال عملية القراءة وبعدها…. (يتبع).