ثقافةصحيفة البعث

جوليان فايس الذي عشق الموسيقا والغناء في حلب

كان يسكن في باب قنسرين وهو واحد من الأبواب السبعة التي تحتضن مدينة حلب الأثرية القديمة، فكنت ترى رجلاً ناهز الستين من عمره بملامح أوروبية يتجول في أحيائها، يرتدي الثياب العربية ويتحدث اللغة العربية ويمشي بين أهاليها، ولولا شقاره لظننته واحداً من سكان الحي، عايش البسطاء وانغمر في مشاكلهم وحضر حفلات الأعراس الشعبية، ودوّن المواويل والألحان واستمع إلى حلقات الذكر.

كنا دائماَ نزوره فنجد عنده تقاليد الضيافة العربية من قهوة مرة وشراب الورد أو البرتقال، يستقبلنا بلباسه العربي عند الباب والابتسامة على وجهه ويدخلنا الدار فنشعر أن كل ما فيها يذكرنا بالماضي القديم، فأشجار النارنج والبرتقال والليمون والورود والرياحين المنتشرة في أرض الديار وشخصه وحياته، كل ذلك يجعلنا نعيش في عوالم جميلة من السحر الذي يذوب في أجسادنا، فقد اختار مدينة حلب لأنها تتمتع بطقس موسيقي من نوع خاص ولها تقاليد موسيقية عريقة، حتى أن تأثيرها تخطى حدودها.

تعلّم جوليان فيس في بلده فرنسا أصول العزف على الآلات الغربية، بمساعدة أمه، ثم التحق بمعهد الموسيقا بباريس، وهناك تعلم على آلة الغيتار الكلاسيكية، لكن هذه الآلة لم تلب ما يريده من الموسيقا، وكان يشعر بفراغ روحي كبير، وبدأ رحلته لإملاء هذا الفراغ، وفي أحد الأيام أنصت إلى موسيقا تنبعث من أسطوانة لعزف منفرد على العود لفنان عراقي شهير هو منير بشير فأعجبه هذا العزف، وقرر من يومها أن يتعلم على آلة العود، لكنه وبعد مدة اكتشف أن هذه الآلة لا تفي بما يريده، وأثناء ذلك تعرف على آلة القانون فسحر بها وانجذب إليها، ولاحظ أنها تحتوي على واحد  وسبعين وتراَ ومفاتيح متحركة تساعد على إنتاج العديد من النغمات ذات المسافات الدقيقة جداً، وعند العزف عليها توضع في حجر الفنان أو على طاولة صغيرة، وينقر على الأوتار بريشتين مثبتتين على خاتمين في الإصبع، السبابة بيديه اليمنى واليسرى.

جوليان جمع الكتب التي تتحدث عن الموسيقا وآلة القانون وقرر أن يتعلم عليها، فسافر إلى القاهرة، وهناك تعرف على كبار الملحنين والموسيقيين والعازفين، كانوا يجلسون على شاطئ النيل وهم يستمعون إلى العزف حتى ينبلج الصباح، لكن روحه لم تتشبع بالموسيقا، فسافر إلى استانبول وبغداد وتونس ولبنان كي يتعلم ويعوّد نفسه، يلتقي بالعازفين الجيدين ويستمع إليهم إلى أن اكتملت موهبته الموسيقية، ثم سمع عن حلب فشد الرحال إليها وكان ذلك في مطلع الثمانينات من القرن الماضي وبعد عدة جلسات مع أهل الطرب والموسيقا، قرر أن هذه المدينة هي الأفضل في الموسيقا والغناء، فاشترى هذا البيت المملوكي الأثري ولبس مثل أهل الحي وتعلم لغتهم وصار واحداً منهم، وصار يراسل المجلات والجرائد ويعرف الأوروبيين على الفارابي والكندي والأرموني وغيرهم، عرّفهم على أعلام الموسيقا والغناء العربي، وما أضافوه وجددوا فيه، وعلى ذلك اعتبر جوليان فايس أنه في مدينة حلب تكمن الأصالة والفن العريق. أسس فرقة الكندي بعد استقراره عام 1983، وأبو يوسف الكندي الذي يعد من أعلام العرب في النظريات الموسيقية في العصور الوسطى وهو الذي ساهم في نقل الأفكار اليونانية من الفلسفة التقليدية إلى العالم العربي.

في حلب صار يقيم الحفلات مع الموسيقيين والمغنين من أهالي حلب ثم تعرف على المنشد صبري مدلل وعلى العازف قدري دلال وأضاف إليهم الفنان عمر سرميني، فصاروا يعزفون وينشدون ويغنون كل ماهو قديم من قصائد صوفية وقصائد غزل وموشحات وتقاسيم وقدود حلبية، ودار بهم العالم، وقد سجلت الفرقة 16 أسطوانة جماعية وعدد من الأسطوانات للعزف المنفرد. ولد في باريس عام 1953 من أم سويسرية ـ ألمانية وأب من منطقة الألزاس، متزوج من المغربية هند أبو إبراهيم الغيلامي وله منها ابنة تدعى كنزي، اختار اسم جلال الدين تيمناَ بالشاعر المتصوف جلال الدين الرومي، ومجموعته تتكون من العازفين على القانون والعود والناي والرق والدف وأحياناَ الطبل، وتعرّف الجمهور الأوروبي على التونسي لطفي بوشناق وحمزة شكور وأديب الدايخ وعمر سرميني وصبري مدلل الذي كان يعمل مؤذناَ في الجامع الكبيرفي حلب، وقد جعل داره مزاراً لكل محبي الموسيقا الشرقية وقدم الأناشيد الدينية والابتهالات والموشحات والقصائد الصوفية والمقامات وهناك عرض لدراويش المولوية، وبيته في حلب عبارة عن متحف صغير يحتوي على تحف نادرة، إنه يعشق الشرق العربي ومدينة حلب بالذات أصبحت عشقه الأبدي، إنه يصرف كل ماله على شراء الكتب وكل ما هو قديم، وهو يعتبر أن المنطقة التي يسكنها أكثر من هادئة، إنها التراث والعطاء والتاريخ العريق. وقد توفي في باريس إثر مرض عضال عن 61 عاماَ.

فيصل خرتش