قدَرُك بين بيتهوفن وكارمينا بورانا
غالية خوجة
تضعك الحياة بمواقف لا تختارها، فإمّا أن تكون فرصة، وإمّا أن تكون نكسة، ولكنك إذا كنت حكيماً، حولتَ النكسات والأزمات والسلبيات إلى فرص من الإيجابيات لأنك موقن بحكمةٍ خفيّة تحدث معك. وهذا ما أدركه الموسيقار الكلاسيكي بيتهوفن، خصوصاً عندما بدأ يفقد حاسة السمع وهي أهم حاسة للموسيقى، فاستمر في صراعه التراجيدي الدرامي القاسي بين ذاته والقدر، وهذا ما تخبرنا عنه بوضوح سيمفونيته الخامسة “ضربات القدر” المتناغمة بين صوتين موسيقيين متوازنين في النقاش والمحاورة والجدل والتساؤل، ومتوازيين في قوة التعبير الباطنية وملامحها الإيقاعية بين دواخل بيتهوفن التي تنكمش إلى الداخل بإيقاع خفيض للتعبير عن الذات الإنسانية، بينما تنبسط وتعلو وتتمدد وتتكثّف وتصبح الأقوى عندما تعكس إيقاعاتُها وضرباتُها دواخلَ القدر.
وعلى الضفة المقابلة للموسيقا، تبهرنا “كانتانات” الموسيقا الشهيرة “كارمينا بورانا” لمؤلفها كارل أورف الذي استمدها من مقطوعات أثرية وجدت في أحد المعابد القديمة بهيئة 24 قصيدة تعود للقرون الوسطى، وهي بقطعتها الأولى “الفورتونا” والأشهر تحاور القدر المرموز له بالعجلة وهي تدور، فترفع من هو في الأسفل، وتنزل بمن هو في الأعلى، وكأنها دائرة الزمان بتقلباتها وطقوسها وعواصفها التي تذكّرنا بأعمال إبداعية إنسانية مختلفة، مثل رواية “الحرب والسلم” لتولستوي، ولوحة “العاصفة” للتشكيلي إيفان إيفازوفسكي، و”العاصفة على بحيرة طبريا” للتشكيلي رامبرانت. وتروي الأساطير والخرافات والحكايات الشعبية في جميع أنحاء العالم عن “ألواح القدر” التي تمنح من يمتلكها القوة المطلقة، والهيمنة على العالم، لكن، أين هي هذه الألواح؟ وما رموزها؟ ومن كتبها؟
ليست هناك قوة مطلقة، فجميع ما نعلمه حتى الآن هو من عالم النسبية، لكنني أحيل القوة إلى القلم والكتابة، لأن الألواح وأوراق البردى والرقيمات الطينية والورق والشاشات الالكترونية ليست سوى وسائل لأداة واحدة هي القلم، الذي أفرد له الله تعالى سورة كاملة، ابتدأت بآية القسم بالقلم: “والقلم وما يسطرون”؟ القلم رمز من تحته رمز من فوقه رمز يحيلنا إلى الفكر والعقل والمفاهيم بينهما، وكما هو معلوم هناك نوعان من طريقة التفكير، ونوعان للعقل: أولهما العقل الفاعل، وثانيهما العقل المنفعل.
ويظل العقل الفاعل هو الأقوى الذي يستطيع أن يبدع كيفيات جديدة ومتجددة للحياة الذاتية والاجتماعية والمكانية والزمانية، وهو ما ينطبق عليه مفهوم القلم بدلالاته الواسعة اللامنتهية، وهو الذي يفكر في تغيير الذات إلى الأفضل مما يؤثر في تغيير نمط الحياة، فإن كان العقل الفاعل إيجابياً اتّسم بالأفعال المضيئة والآثار المشرقة عبْر الزمان، وإن كان سلبياً اتسم بالأفعال المظلمة والشريرة والقبيحة، ولا بد للنجاح من الانتصار على التحديات مهما بدت مستحيلة حيث لا مستحيل ولا مطلق، وهذه المعادلة تنطلق من التكوين الذاتي، ثم المجتمعي، لتؤثر ذبذباتها في الأبعاد الأخرى كما تؤثر الأشعة الراديومية في الفضاء، وتتفاعل مع أسلوب جديد للحياة من المتوقع أن يكون أكثر نقاء وصفاء وفاعلية.
بلا شك، هناك عوامل متضافرة للتفوق على التحديات، وتوظيفها من أجل النجاح، والاستمرار في منحناهُ ومعه، وتطويره، يحكمها الوعي اليقظ دائماً بالأهداف والعناصر وظلالها ونسقها وما وراء نسقها، لنساعد أنفسنا بالإمساك بالقلم والألواح معاً.