هبّة القدس..!
حسن حميد
أتذكّر الآن، وهبّة القدس في أوجها وهي تواجه المستوطنين الإسرائيليين الذين يحاولون مرات ومرات اقتحام المسجد الأقصى، وما حوله من الأمكنة المقدّسة للديانتين الإسلامية والمسيحية، أتذكّر الدكتور عبد السلام العجيلي الطبيب والنائب في البرلمان السوري، يوم قرّر أن يشارك في أعمال جيش الإنقاذ الذي كان على رأسه المجاهد فوزي القاوقجي من أجل مواجهة العدوين الانكليزي والصهيوني طلباً لاستقلال فلسطين مثل باقي البلدان العربية عندما تكاثر الحديث العالمي، كدت أقول الضغط الدولي، على بريطانيا وفرنسا من أجل إعطاء الشعوب والبلدان حريتها وسيادتها بعد سنوات من القتل والخراب ونهب الثروات.
الدكتور عبد السلام العجيلي أراد أن يترك كل شيء وراء ظهره من أجل عزة فلسطين واستقلالها، أن يترك النيابة ومسؤولياتها، وهو الذي كان يمثل مدينة الرقة ورقعتها الجغرافية الواسعة، وأن يترك عيادته الطبية وهو الطبيب المعروف في الرقة، ويترك الجاه الاجتماعي الذي عرفه من أجل نصرة أهل فلسطين الذين هبّوا في ثورات متتالية من أجل انتزاع استقلالهم من الانكليز، على الرغم من أنّ كثيرين نصحوه بعدم المشاركة لأنّه سيضحي بهيبته السياسية، والطبية، والاجتماعية، ولكنّه لم يستجب حتى لنداءات شيوخ العشائر الذين أرادوا ثنيه عن المشاركة، كما لم يستجب لطلب الرئيس شكري القوتلي الذي استغرب طلبه في المشاركة في أعمال جيش الإنقاذ، وحاول ثنيه في البداية، ثمّ بارك مشاركته حين أدرك تصميمه على الذهاب إلى فلسطين لمعالجة الثوّار الجرحى.
أتذكره الآن، لأنّ فلسطين كانت، ومنذ ذلك الزمن 1947 بحاجة إلى المساندة من جميع أبناء العروبة، وآنذاك لم تكن جميع الأهداف الغربية والصهيونية واضحة وجليّة مثلما هي اليوم، ولهذا فإنّ فلسطين اليوم، وقد عُرفت أبعاد الاستهدافات الغربية والصهيونية، بحاجة أكبر للمساندة لأنّ إنقاذ فلسطين مما هي فيه يعني إنقاذ البلدان العربية من كل خوف أو ارتياب على سيادتها، لأن الإسرائيلي لا يريد السيطرة على أرض فلسطين فحسب، وإنما يريد السيطرة على كل ما هو اقتصادي واجتماعي وسياسي وثقافي في البلاد العربية من المحيط إلى الخليج.
صنيع الدكتور عبد السلام العجيلي الذي ترك كل ما تتباهى به النفس وما تسعى إليه من أجل نصرة فلسطين وأهلها، هو الدرس الذهبي الذي كتب سطوره ومعانيه اقتداءً بالدروس الذهبية التي كتب سطورها سليمان الحلبي، وعزّ الدين القسّام، وسعيد العاص، ومحمد الأشمر، وسعيد عكّاش، وأحمد مريود، وفي مقدمة هؤلاء الشهيد يوسف العظمة.
إنّ هبّة القدس اليوم، وبحضورها الشعبي، تؤكّد أنّ القدس ليست جغرافية، ولا حدود إدارية، ولا شرقية أو غربية، وإنما هي معنى وعقيدة، وأخلاق وقيم، بعدما بلغ السيل الزبى، فما عادت الحياة تطاق في القدس، وصور الهوان والإذلال تتجلّى يومياً مع اقتحامات الصهاينة للأماكن المقدّسة الإسلامية والمسيحية في آن، ناهيك عن صور الهوان والإذلال البادية في الأسواق، والشوارع، والساحات، ومواقف السيارات، والمقاهي.
إنّ هبّة القدس اليوم تشبه إلى حدّ بعيد هبّات أبناء الشعب الفلسطيني منذ عام 1917 وإلى يومنا هذا، هبّات محتشدة بالوطنية ومعاني العروبة والعقيدة والقيم السامية المنادية بعزّة الإنسان وكرامته فوق أرضه، ولكن ما ينقصها هو المساندة الحقيقية النابعة من العقيدة المؤمنة بالعروبة والتاريخ والدم الواحد.
إنّ تغوّل القوّة الإسرائيلية يتطلّب منّا أن تكون المساندة العربية في أعلى درجاتها وقوّتها، وأن تتوارى صور وطيوف الخذلان من الفرجة واللامبالاة إلى إدارة الظهر وعدم الاستجابة لنداءات الضمير، لأنّ هذا البيت الذي أقامه العدو الإسرائيلي هو أوهن من بيت العنكبوت حين تتجلّى الإرادة، وتتجرّد العزيمة من كل وهنٍ وتراخٍ وضعف.
Hasanhamid55@yahoo.com