الفنان صانع الحياة
الفنان هذا المخلوق الغريب، ما أشد عناءه، كان يضيء ذات يوم طريقاً للآخرين وقد كان عود ثقاب يحرق أنامله، بيد أن صوتاً عميقاً كان يحذره، وكما تحذر عصافير السدرة أعشاشها من الرعود، كان سيحذره ذلك الصوت النائي، ولكنْ ثمة حروق لابدّ من أن تترك آثارها من أجل النور، وكان سيضحي حتماً للآخرين، وكذلك تنمو دودة القز باستمرار لكي تنسج خيوط الحرير فإذا أنقذت الشرنقة في الوقت المناسب، ماتت اليرقة في داخلها، أما إذا احتفظت بحياة الفراشة فإن ثمن ذلك خيوط الحرير، والفراش كالعمل الفني والفنان، ليس ما يرسمه الرسام وثيقة اعتراف أكثر منه سلوكاً انسيابياً، بيد أن ما يغوي الرسام بالاستمرار في سبيله هو أنه يشمل بسلوكه الفني الإنسانية جمعاء، لأن الفنان كائن حيّ وأن ما يدفعه نحو الإبداع هو أنه يساهم مع المساهمين في بناء العالم البشري وإن كان غير متأكد بعد من نهاية عمله لأنه سيظل يشعر أبداً بأنه لا يزال في منتصف الطريق، وإن كان ما سيصله من مراحل لا يمثل مرحلته النهائية، كان ذلك لأنه لا يعلم بالضبط لماذا يرسم؟ أم إنه يفيق بطبيعة فنه ولكنه سيبقى متأكداً من أنه يطور الحضارة والإنسان، وإنه لن يحول بينه وبين فنه حائل ما عدا الموت، وما هذا سوى المشهد الأخير من مسرحية حياته المتكررة.
هناك إذن ما هو أعظم من الفنان (كفنان)، إذ ليس عمله أن يبتدع فحسب وأن يخلص في فراغ عبئه على ساحل الخليج النائي، لأن ما يرسمه الرسام المعاصر يستدعي معاصرة الناظر في استيعابه العمل الفني، ذلك أن غياب الإنسان خلال النسخ الزائفة للآخرين هو الحجاب الذي يفصل ما بين الفنان الحديث وجمهوره، ومع ذلك فقد يحدث أن يشعر الإنسان أحياناً شعوراً مبهماً بحضوره، ففي لحظة ما يستيقظ ذلك الحنين الرائع في لوحات بعض الرسامين، وحضور الناقد له مكانه ما بين الفنان والجمهور، وحينما يبدع الفنان فإن على الجمهور أن يبحث بنفسه عن رؤاه في لوحاته، أما الناقد فهو حلقة الوصل بينهما، هو الجسر الذي سيمرّ عليه الجمهور كي يستوعب العمل الفني، فالناقد لهذا السبب بالذات يضطلع بمسؤولية عظيمة إزاء ثقافة الجيل، أنه جدير بإزالة الجدار القائم بين الفنان والجمهور وسد الهوة التي تفصل بينهما، ولكن الناقد من ناحية أخرى مسؤول أمام العمل الفني نفسه، فإذا كان على درجة ملائمة من النضوج بحيث يواكب الفنان نفسه في ثقافته وفي بحثه المستمر عن القيم الإنسانية والجمالية، أصبح بميسوره أن يطوّر الحركة الفنية أو يسرّع في تطويرها على الأقل، وحينما يرسم الرسام فهناك (ناقد داخلي) يصحّح عمله على الدوام، فهو كامن في ذاته لكي يظهر في الوقت الملائم، ولكن جمهوره خارجياً هو الذي سوف يحكم عليه في النهاية، وقد يحدث أن يبرز من خلال هذا الجمهور شخص متمرس ينقد ما يراه ليمثل من بعد رأي الجمهور، أما إذا حدث ومثل الجمهور شخص قليل الكفاءة فإن ذلك كفيل بأن يسيء إلى العمل الفني والفنان والجمهور على السواء. وعلى كل حال فإن لغة العمل الفني هي أن يناضل الفنان ضد عدو غير معلوم ومجهول في الوقت نفسه ضد الفجاجة واللاواقعية لأنه في صدق لهجة ونقاوة سريرة، ومن ثم يشقى الفنان لأنه يريد أن يفعل شيئاً ويرى النور بعينه.
د. رحيم هادي الشمخي