القدس تنتفض.. رسائل في كل الاتجاهات
محمد نادر العمري
شهدت الأيام الأولى من شهر رمضان اندلاع شرارة المواجهة المتصاعدة ما بين قوات الاحتلال الإسرائيلي، يؤازرهم المئات من المستوطنين، من جهة، والفلسطينيين المقدسيين من جهة أخرى، وسرعان ما اتقدت هذه الشرارة واتسعت رقعتها، بعد ما يزيد على أسبوع، لتشمل القدس والضفة وغزة. ولم ينحصر حراك هذه الانتفاضة على شكل تحركات شعبية فقط، بل شملت استخدام جزء من القوة العسكرية “الصاروخية” لفصائل المقاومة.
يمكن القول إن المواجهات التي حصلت -بغضّ النظر عن شكلها- تضمّنت العديد من الرسائل المتكاملة وعلى مستوى كل الاتجاهات، أبرزها أنه بعد سنوات من الدعم الأمريكي المنقطع النظير، أثناء فترة حكم الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، لفرض أمر واقع، جاء الانفجار المقدسي ليتضمّن ما يتضمنه من حالة غضب شعبي فلسطيني بالدرجة الأولى، إلى جانب عدد من الرسائل الأخرى. لعلّ أول وأبرز هذه الرسائل للقوى الفلسطينية، من هي داخل السلطة ومن هي خارجها، تؤكّد ضرورة إنقاذ المشروع الوطني الفلسطيني والتمسك بالثوابت وبالحقوق الشاملة، والالتحاق بركب الرأي العام المنتفض في وجه الاحتلال والاستيطان بشكل واضح وصريح، وتوظيف هذه الانتفاضة الشعبية الفلسطينية للضغط على الاحتلال الإسرائيلي، والعمل على إنجاز الاستحقاقات الفلسطينية التي من شأنها إعادة تنظيم الإطار الوطني الفلسطيني وإنقاذه، وتدعيم منظومة مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، فإنقاذ القضية الفلسطينية وحفظ هذه الهوية يستدعي تماسكها وتوحّدها بكل مكوناتها، والتخلي بشكل كامل عن الأيديولوجيات والمصالح الحزبية والشخصية.
وضمن هذا الإطار يمكن أن تكون الهبّة الشعبية للفلسطينيين تتضمن ما تتضمنه من مطالبة بالتخلي الكامل عن أي تعويل لأي من مسارات ما يُسمّى بـ”التسوية السياسية” التي لم تحقّق أي نتائج للشعب والقضية الفلسطينية، واستغلها الكيان الإسرائيلي على مدى العقود السابقة لزيادة تمدّده وشرعنة سلوكياته والتهرب من التزاماته.
الرسالة الثانية، هي لرئيس حكومة الاحتلال المأزوم داخلياً “بنيامين نتنياهو”، الذي يعاني من توالي الأزمات الداخلية بشكل متسارع، وتراجع شعبيته، التي تآكلت مؤخراً نتيجة تورطه في قضايا فساد، وتراجع مقدرات الكيان عسكرياً وأمنياً.. لذلك لجأ لدعم الاعتداءات الاستيطانية، في محاولة منه لتصدير أزماته واسترضاء المتطرفين، خاصة وأنه لم يجنِ ثمار اتفاقيات “التطبيع” كما يُحب ويشتهي، ولكن الانتفاضة الشعبية الفلسطينية والردّ الصلب وضع نتنياهو والكيان في موقع محرج وبات بين خيارين: الأول نحو تصعيد عسكري غير مضمون النتائج، أو النزول عن الشجرة بشكل تدريجي. كما أن الشق الآخر من هذه الرسالة موجّه لكل الحكومات لإسرائيلية السابقة والمستقبلية، بأن رهانها على تهجير وقتل وموت الجيل، الذي شهد تشريداً وتهجيراً وعانى أفظع أشكال الإرهاب والتمييز وسلب الحقوق، سيؤدي لتصفية القضية ولنسيان الحقوق هو واهم.. واهم، فالانتفاضة الحالية قادها شباب فلسطين، الذين يصنّفون ضمن الجيلين الثالث والرابع بعد إقامة الكيان، ولم يخرج بطلب جهة سياسية أو لمصلحة فئة أو حزب سياسي، بل عبّرت انتفاضتهم عن مدلولين: الأول وراثة مفهوم المقاومة بين الأجيال الفلسطينية، والثاني الإرادة الحرة في المطالبة بالحقوق عبر القوة والمقاومة، وتوجيه البوصلة باتجاهها الصحيح وهو القدس والقضية الفلسطينية، ولاسيما بعد الفوضى والخراب الذي نجم عمّا سُمّي “الربيع العربي”.
الرسالة الثالثة، موجّهة للإدارة الأمريكية الجديدة، التي وإن كانت متمسّكة بأمن “إسرائيل”، إلا أن حالة التوتر في العلاقة بين بايدن ونتنياهو تعيد إلى أذهاننا خلاف الأخير مع أوباما، وهذه المرحلة من العلاقات الأمريكية الإسرائيلية من شأنها أن تدفع الإدارة الأمريكية الحالية للتخلي عن دعم نتنياهو، وإجبارها على الاعتراف بالحقوق الفلسطينية، التي لطالما أنكرتها السياسة الأمريكية التي تطرفت لمصلحة “إسرائيل” طيلة السنوات الأربع الفائتة، وبايدن باعتباره اليوم يرفع شعار دفاعه عن حقوق الإنسان -ولو لأهداف انتخابية داخلية- إلا أنها تشكّل فرصة لتطويقه ضمن الخيارات الفلسطينية.
أما الرسالة الأخيرة، فهي للأنظمة الرسمية العربية لتذكيرها بواجباتها تجاه المدينة المقدسة وتقديم الدعم الاقتصادي والسياسي لها، وبصورة خاصة بعد سلسلة اتفاقات التطبيع التي حصلت مؤخراً، وأدّت ليس فقط للانسحاب من الواجب القومي والتملّص من المسؤولية السياسية والأخلاقية، بل أدانت عمليات المقاومة.
انتفاضة المقدسيين في شهر رمضان المبارك أعادت القدس والقضية الفلسطينية إلى الواجهة، وخاصة بعد النصر الذي حقّقته هذه الانتفاضة في دفع الكيان وأجهزته لرفع الحواجز الأمنية في القدس، كما استطاعت تأكيد المؤكد الذي أكدته المقاومة اللبنانية بأن هذا الكيان، ومن يقف خلفه داعماً وحاضناً، لم ولن يفهم إلا لغة القوة والمقاومة.