نورس آخر (2)
د. نضال الصالح
من “الوحل” إلى “العتق” مضى المبدع الراحل محمد حسين مقتفياً أثر خيط الدم في درب الجلجلة السورية، ومنتصراً للدم ضدّ السيف، ومنحازاً إلى الإنسان أيّاً كان انتماؤه الاثني أو الديني أو المذهب، وممسكاً بمغامرة السرد الروائي كما يليق بمبدع واسع الثراء المعرفي بهذه المغامرة، ومقنعاً قارئه بأنّه صاحب تجربة فارعة في كتابة الرواية على الرغم من أنّه لم ينجز سوى هذين العملين، ولا أعرف إذا كان أنجز الجزء الثالث، “الغبار”، وأنه محفوظ مخطوطاً، أو مرقوماً على الكومبيوتر، لدى أسرته التي آمل ألا تتردّد في دفعه إلى النشر، لعلّ روح محمد تطمئن في عليائها، ولعلّ الثلاثية نفسها تكون رصيداً جديداً في مدوّنة السرد الروائي السوريّ، بل العربي عامة، ولاسيما تلك التي تنتمي إلى ما يُصطلح عليه بالرواية النهرية، أو رواية الأجيال.
يتابع محمد في “العتق” محكيّ “الوحل”، مستكملاً سير شخصيات الأولى، ومضيفاً إلى الثانية شخصيات جديدة، ولعلّ أبرز ما يميّز الروايتين أنه ما من حكاية مركزية في أي منهما، بل حكايات ينضفر بعضها مع بعض، بآصرة أحياناً وبغير آصرة أحياناً ثانية، وفي الحالين معاً في وحدة عضوية متماسكة من جهة، ودالة، من جهة ثانية، على هندسة لافتة للنظر في بناء الشخصيات والأحداث وغيرهما من عناصر السرد الروائي.
وعلى الرغم من أنّ هذه الرواية، أعني “العتق”، تتابع حكاية علي اليتيم الوسوف، أو عمر غولي باشا، وتُنضج حكايات برهوم وحبيبة والشامي وغيرها من الشخصيات على نار هادئة، فإنها لا تُعنى بالحكاية بوصفها حكاية بل بوصفها مرجعاً واقعياً، أو تخييلياً، لهجاء خيط الدم المتتابع منذ نحو خمسة عشر قرناً إلى الآن، والذي يتجلّى في الروايتين معاً من خلال الشخصيات التي تنتمي إلى راهننا، مكتويةً بلظى الجحيم الممتد منذ ما يزيد على عشر مضت من السنين، ومثخنة بحراب الوعي المضاد لحركة التاريخ، والمثخن بنفسه بغير ضربة سيف، وغير رمية سهم، وغير طعنة رمح.
وفي الروايتين معاً يبدي محمد كفاءة واضحة في تثميره الدلالي للشخصيات والأحداث من خلال غير تقنية سردية، من أهمها “المتناصات” التي يبثها بين موقع وآخر في تضاعيف السرد، ومن ذلك نصوص للحلاج، وناظم حكمت، وجبران خليل جبران، وأغنيات فيروز، وبعض البيانات السياسية التي عرفتها سورية في عقدي الأربعينيات والخمسينيات، وعلى نحو تتجلّى معه بوصفها متناً في نسيج السرد، وعنصراً مترفاً بالحمولات المعبّرة عن ثراء معرفيّ تختزنه ذاكرة محمد، وتبعثه من رميم فضائه اللفظي إلى فضاء المجاز.
محمد حسين خسارة للثقافة السورية، ولاسيما للإبداع الروائي، وهي خسارة لا تقلّ أهمية عما أنجزه ممّن تمّ الاصطلاح عليهم بالكبار، على الرغم من أنّ كتاباته التي رأت الضوء لم تتجاوز مجموعة شعرية وروايتين، لأنّ الكمّ في فضاء الثقافة لا يعني شيئاً.
وبعدُ، وقبلُ، وأبداً، فلروح محمد طمأنينة الأبد. محمد المجرّة من العذوبة: حرفاً، وإنسانيةً، وقيماً.