نحن والدّور

عبد الكريم النّاعم

– بداية أقول إنّ ” الدّور” هنا هي جمع مُفرده “دار”، ولا علاقة له بـ “الدُّور” الذي يعني الانتظار في طوابير للحصول على بعض الضروريّات، وما أكثرها، وأشير إلى أنّ بقاء أن نكتب في موضوع واحد، متعلّق بالهموم المُتناسلة تناسل فيروس الكورونا يعني أن نُقفل جميع الآفاق التي لها علاقة بالحياة، ولستُ أعني أن ننصرف عمّا يشغلنا من تلك الشؤون، لأنّ هذا انفصام صارخ، كما أنّه ليس من المعقول أن نتجمّد عند تكرار صار ممِلاًّ ومؤلِما في آن، لاسيّما في الأزمة التي تبدو أنها لم ينفع رفع الصوت فيها، لأنّ بعض مَن بيدهم الحلّ والرّبط خارج إطار التغطية، وليس الذي يده في الماء كمَن يده في النّار، ولستُ أزعم صواب هذا الرأي بإطلاق، بل هو تَعِلّة ربّما ساهمت في فتح نوافذ لابدّ منها.

– يقول ابن خلدون: “.. فيكثُر الهرْج، والقتْل، ووقوع البلاء، وسببه في الغالب فساد الهواء بكثرة العمران، لِكثرة ما يخالطه من العَفَن والرّطوبات الفاسدة، وإذا فسدَ الهواء، وهو غذاء الروح الحيواني، ومُلابِسُه دائماً فيسري الفساد إلى مِزاجه…” … إلى أن يقول: “.. إنّ تَخلُّل الهواء، والقفر من العمران ضروريّ ليكون تَموُّج الهواء يذهب بما يحصل في الهواء من الفساد والعَفَن..”.

الفكرة السابقة أحالتْني بسرعة على مسألة يُستساغ التوقّف عنها كتساؤل وهي أنّ أغلبيّة الذين انجرّوا إلى القتال في صفّ الدّواعش والنّواهش، منذ البداية، كانوا من تلك الأحياء المكتظّة، المزدحمة، والتي يفتقر معظمها إلى تخلّل الهواء والشمس، ولا أقول أنّ هذا هو السبب الوحيد، فثمّة أسباب لا تقلّ خطورة وهي عدم تخلّل هواء الفهم الصحيح، والانسياق وراء رغبات هي أقرب إلى الغريزة الشّريرة، وهذا يُحيل بشكل ما على التربية، والتثقيف، والتوعية التي تسمح ب” تخلّل” هواء الفهم السليم، والوعي بالمجريات، والخروج من ظُلمات الموروثات الفئويّة، والمذهبيّة، والطائفيّة، وهذا يحتاج بناؤه لعشرات السنوات، ومن هذا يتفتّق سؤال مركزي هو أين ذهبت تربية وتنشئة أجيال بكاملها، وهو سؤال كبير، يستدعي المراجعة، والجرأة في الطّرح، والتحليل، والصدق في القول، للبدء بأزمنة جديدة، وبأساليب جديدة، وأفكار مناسبة، للخروج من ذلك النّفق الذي لم نُحسن الخروج منه إلاّ في ميادين بسالة القوّات التي قاتلتْ وما زالتْ.

– سؤال يتقدّم صاعداً من تلك المساحة، تُرى هل إذا تخلّصنا من ذلك الاكتظاظ في الأحياء القديمة المشار إليها هل ستحقّق ما تُضمره كتابة ابن خلدون؟!!

لا أشكّ أنه سيكون لذلك (بعض) الآثار وليس كلّها، لأنّ هذا أحد الأسباب وليس كلّها، كما لاشكّ أنّ لهيئة العمران أثره الذي ينعكس في النفس، فللأبنية ذات الفسحات الواسعة، والشوارع العريضة النّظيفة، والإطلالات الجميلة أثر ينطبع في النّفس، وما ينطبع في النّفس يترك أثره  عمقاً وفاعليّة، ورغم ذلك فقد شهدنا في بداية اندلاع الخراب العربي، في مدينة حمص، مَن خرج ليضرب على الطّناجر في حيّ اسمه القصور، وفيهم المهندس، والطبيب، والموظّف، والتّاجر وما أشبه ذلك،

أنا أرى انّ ابن خلدون قد بالغ هنا، فأوروبّا المعروفة بحسن تنسيق البناء، وانتشار الحدائق، وديمومة الخضرة، هي التي استعمرت البلدان المتخلّفة، ولعلّ مَن يقول أنّ الذين استعمروا لا يمثّلون كلّ ذلك المجتمع، بل هم تعبير عن شريحة من شرائحه العليا، وهنا نقول إنّ الشعب السّاكت على ما يراه من استغلال، وجبروت، وظلم  يتحمّل مسؤوليته، لأنّ الرّاضي بشيء كفاعله،

إنّنا في قادم الأيام التي نرغب بمجيئها، ونطمح إليها نتمنّى أن يكون البناء في الحجر، بقدر ما هو في البشر، وأن يكون ذلك في العُمق لا في السطح، لأنّ العلّة الأخطر هي بما في الصدور، لا في بناء الدّور…

aaalnaem@gmail.com