فايز خضور: فارس الحداثة الشعرية المعاصرة وآخر شعراء جيل الستينيات
يُعدّ واحداً من أعلام الأدب العربي في سورية، وكان أحد رموز الثقافة والصحافة الثقافية، كما وصِفَ بفارس الحداثة الشعرية المعاصرة وآخر شعراء جيل الستينيات، وقد حمل راية الحداثة كمشروع معرفي، داعياً إلى نسف قصيدة النثر بوصفها تجربة هجينة ومستوردة، وظل حتى رحيله منذ أيام محتفظاً بحضوره الساطع في المشهد الشعري السوري المعاصر، لتشكل تجربته إحدى التجارب المهمة والمتميزة في الشعر السوري.
مشروع شعري
كان يشبه كثيراً عنوان ديوانه الشعري “حصار الجهات العشر” فعالمه الشعري مترامي الأطراف، فيه الكثير من الدهشة والغرابة، ومسيَّج بالصدق والعناد والجدية، وقد أدرك منذ الصبا أن المبدع يبقى مشتتاً ومبعثراً وقليل الجدوى إن لم يعمل على مشروع شعري يُقدِّم رؤيته المتكاملة للوجود الذاتي والموضوعي والكوني، مازجاً شعره الحداثي بالأسطورة والتاريخ، ومعتبراً الرمز والأسطورة أدوات معرفية يجب أن يتعامل معها كل مبدع لديه مشروع شعري وثقافي لأنهما أدوات معرفية تغني وتثري النص من خلال تعميقه وتوسيعه وتعدد دلالاته، وقد اعتمد في شعره على الأسطورة السورية القديمة وهي إحدى جوانب مشروعه الشعري الذي عمل عليه لأنه كان مؤمناً أن الشاعر لامعنى له إن لم يكن منتمياً، فكان انفتاحه كبيراً على الموروث بمختلف عناصره من أسطورية ودينية وأدبية وفولكلورية وتوظيفها بوصفها عاملاً من عوامل إغناء القصيدة.
فراديس اصطناعية
كان الراحل يؤمن أن لغة الشاعر هي شخصيته لأنها تجمع الآلام والتجربة والمعاناة والثقافة والحلم، ولهذا كان لزاماً على كل مبدع أصيل وجاد برأيه أن يجوّد لغته ويشحنها بمستويات دلالية، ويكشف الغبار عن مهملها ويحيي مواتها، أما الخيال بالنسبة له فهو الدخول في فراديس اصطناعية تخفف من يباس وعبء الواقع وتحمل وتشجع على الولوج إلى مجهول الآتي، كما هو فعل الواحة في الصحراء والاستراحة للمحارب، على ألا يصل إلى التخييل الكاذب والواهم والمريض، وفي زمن يقال أنه زمن الفقر الأدبي كان فايز خضور يعمل دوماً على أن يبقى ينبوعه الشعري متدفقاً بالصدق والشجاعة ونبل الانتماء مع ثقافة متجددة ومتطورة تتخذ من المضيء في التراث منارة وسنداً، فتنطلق منه إلى الآفاق الرحبة دون أن ينسيها أو يلهيها جمال التحليق عن عظمة ترابها وقداسته، وأما الفقر الأدبي فسببه برأي خضور الذهول والتشتت في اختيار المشتهيات والتساهل في التعامل مع الإرث والمعطى الثقافي وانحسار حس المسؤولية عند الكاتب والمتلقي في وقت واحد.
أجرأ من الحلم
ويتفق الشاعر خضور مع الشاعر ماكليش حين قال “إن المرء إذا حاول أن يتبع عملية الخلق الشعري فإنها عملية حمقاء” لأنه كان يؤمن أن الإبداع الحقيقي هو الخروج على السائد وخلخلة الراكد وتعرية المتراكم والمتكدس لأن الحقيقة برأيه دائماً فضائحية: “لهذا كانوا يقولون عن كل شاعر عظيم أنه أجرأ من الحلم” وكذلك الغموض كان يراه ضرورياً للإبداع إذا كان الغرض منه تعميق الدلالات في مستويات قراءة النص، ويكون رديئاً ومرفوضاً عندما يكون مبهماً وغرضه التضليل والتوهان، وحين كان يقال أن الدخول إلى عالم فايز خضور ليس سهلاً لما فيه من غرائب وعجائب كان يوضح أن هذه الغرائب والعجائب ليست أكثر من كونه يتعامل مع الحياة بجدية ومسؤولية وعمق في الرؤية.
حصار الجهات العشر
حين أصدر مجموعته الشعرية المتميزة “حصار الجهات العشر” قيل أن فيه شيئاً كثيراً من ابن الفارض والحلاج، فكان رده أنه قد يلتقي معهما في مسارات الاجتهاد والتمرد، لكنه يتعارض معهما في موضوع التصوف والزهد لأنه يؤمن بالمادية الروحية، إذ دعا فيها إلى الثورة الاجتماعية من منطلقات ميدانية وليس من منطلقات صوفية غيبية، أما في مقدمة ديوانه “أمطار في حريق المدينة” فقد أشار إلى أن الفنون جميعها، والشعر خاصة، لم تكتسب دلالة موحية لولا الشكل، لأن المضامين برأيه ملقاة في الشوارع، وأي قيمة تُرتجى من كمونها وتركها مهملة منسية لولا الانتقال بها من حيز الكلام العائم إلى ملكوت الكتابة بكافة تقاسيمها وأشكالها، وكان يؤكد دائماً على أنه يرى علاقة تواشجية بين الشكل والمضمون حيث الشكل المتلائم والمواتي والمناسب هو الذي يكسب الفكرة المنسية القابعة في الظلام الأبكم حيوية الولوج في عالم الضوء، لذلك كان يقول إن أي تجديد في الفكر الأدبي عموماً لا بد أن يواكبه تطوير أدواته المعرفية والتشكيلية، وفي طليعتها اللغة الفنية لهذا الفكر، وأي تقصير في إهمال اللبوس تظهر الصورة مهلهلة وبعيدة عن الرضا والقناعة والمنطق القويم.
خارج السرب
على الرغم من تأكيده على أنه لا وجود في اللغة العربية لما يسمى بقصيدة النثر:”القصيدة، أي الشعر، وأما النثر أي اللاشعر” إلا أنه مرر بعض المقاطع مما يسمى بقصيدة النثر في أعماله الشعرية، واعتبر ذلك تسرعاً وكان أن قام بعزلها من أعماله الشعرية ضمن كتاب النثر، ولكنه لم يعد إلى تجريبها فيما بعد، حيث بقي مخلصاً ومؤمناً بقصيدة التفعيلة كتوجه شعري وحقيقي في القصيدة العربية، داعياً إلى نسف قصيدة النثر لأن القصيدة الشعرية بالنسبة له لا يمكن لها أن تنبت في أرضٍ ليست لها.. من هنا غرد خارج سرب أطروحات “جماعة شعر”.
الشعر العربي المعاصر
ضمن مهرجان الشعر العربي المعاصر كان فايز خضور يرى الجمال في تعددية ألوان قوس قزح، وفي وعورة مضماره والنكوص المحتمل في سعيه وراء المجاهل، أما القبح فيه فكان يتبدى في إساءة استخدام أدواته وأسلحته وأقانيمه المعرفية، وكان يؤمن أن الشعر يكون نقيضاً لقبح العالم عندما يظل البديل الموضوعي الجميل الصامد في وجه الظلامية واليأس، وأن الشاعر ينجح في تحقيق معادلة غزارة النتاج الشعري وإتقان الصنعة الشعرية عندما يكون المبدع أقرب إلى المتناول دون الإساءة إلى الفهم، وأن يكون محترفاً يتعامل مع كلماته بمنتهى الجدية، وأن القاعدة في سر العمل الفني أن نقول أن هذا شعر وليس أرقاماً حسابية تنظمها نظرية ما أو منطق علمي ما، لأنه شعر والمعادلة الصعبة له هي الحس الفني والعذوبة التي هي البوح الداخلي الذي يصنع الشعر.
ظلال الكلام
ولد الراحل فايز خضور في العام 1942، حاصل على إجازة في الأدب العربي من جامعة دمشق عام 1966 كتب الشعر في سن مبكرة، ونشر أولى قصائده وهو في السادسة عشرة من العمر أواخر الخمسينيات متأثراً ببودلير وبدر شاكر السياب ثم خليل حاوي وسرعان ما اختط طريقاً خاصاً به، إذ صدر ديوانه الأول “الظل وحارس المقبرة” عام 1966 وضم مختارات مما كتبه بين 1958-1965 ثم توالت أعماله الشعرية لتزيد عن 20 كتاباً كان آخرها ديوان “مرايا الطائر الحر” الصادر في بيروت عام 2010 وقد قامت وزارة الثقافة بنشر دواوينه الشعرية (الأعمال الكاملة) عام 2003 كما أصدرت عام 2004 كتاباً يضم نصوصاً نثرية تمثل سيرته الذاتية وبعض آرائه في الشعر والحياة بعنوان “ظلال الكلام” وقد مُنِح الراحل جائزة الدولة التقديرية عام 2012.
أمينة عباس