أهازيج الفرح..
سلوى عباس
صباح الوطن الجميل الذي يعيش أعراس الفرح.. صباح القلوب المشرعة على الحلم تتنشق رائحة الياسمين الممزوجة بهيل الكبرياء والإرادة والصمود تنسجها أرواح من إباء، تتمطّى للشمس وتهمس للنوافذ المفتوحة على الحب والأمل حكاية ولعها وإيمانها بوطن متجذّر في الوجدان.. سورية الشامخة بعزة أبنائها وجيشها وقائدها.. أبناؤها الذين يرتبون أولويات أيامهم بانتظار اللحظة المفصلية وهم يستعدون لنصر أيامهم القادمة باستحقاق سيكون خطوة الوفاء الأولى للرياحين العابقة أرواحهم بطهر الوطن.
هي الصورة تبدو أبلغ من كل اللغات، وتتبدّى الحكاية مشرقة بالحب، وكأنه الامتحان الصعب أمام استمرار الحياة، تتحرك الدنيا بهية مفعمة بالأفراح المنداة بلهفة الأطفال الذين مسحوا عن جفونهم ظلال الوسن وباكروا صباحهم لينطلقوا إلى ملاعبهم الوسيعة، يرتدون ثياب العيد التي قضوا عمراً يحلمون بزهوتها بعيداً عن الخوف الذي كبلتهم به الحرب، فانطلقوا يعيدون تنظيم الزمن بما يليق بقلوبهم البيضاء.. أطفال يثلجون الروح بإشراقة الفرح التي اعتلت محياهم وهم يتدافعون بين بعضهم ليكسبوا الوقت ويستثمروا الألعاب كلها، ويعيشوا طقوس العيد كما يحلو لهم، كانوا كطيور داعب الهواء أجنحتها للمرة الأولى، يكتشفون أمكنتهم وملكوتهم الصغير، ترتعش قلوبهم كثيراً، لكنهم مغمورون بفرح غمرهم حتى الغرق، لاشيء كان بمقدوره أن يوقف اشتعالهم، ولاشيء يسكن أرواحهم عن التواثب بين اللهفة والانتعاش، بين مسرات بحجم الربيع، ورغبة التماهي بين خضرة الأشجار ولون السماء، تحولت وجوههم إلى ضياء من أقواس قزح وهم يلتفون حول بائع البوشار أو غزل البنات، أو حتى الألعاب التي اعتادوا على شرائها في العيد، هؤلاء الأطفال الذين يمثلون امتداداً من ضوء حين يميل القلب ليلمّ نجومهم التي تساقطت على شرفة الروح، فتلتمع الأغاني على وقع خطوهم، وتتراقص الروح على صدى نداءاتهم، فهم الياسمين الذي انهمر من بين أكفهم الصغيرة بيادر من العطاء، والحب الذي سيزهر وينثر شذاه على وطن الفرح، لأنهم الغد المشرق بالجمال.
أما حالنا مع الغياب الذي يقضّ أرواحنا منذ سنوات عشر، لازال هو سيّد الحضور في العيد الذي يأتي وسيدات الضياء ينفردن مع أحبائهن ينثرن عبق حنينهن على شواهد قبور تضمّ أرواحاً غابت بعيداً في سديم الحزن الذي ينمو ويتكاثف يوماً إثر آخر، فهذا اليوم الذي اعتاده الناس مناسبة للفرح، أصبح يحضر معتمراً قبعة الأسى، فيعيشونه بخليط من المشاعر المتداخلة، تبدو رمادية غائمة كيوم شتوي جافٍ ضاعت فيه الظلال، يقتلهم فيه البعد، وتحيّرهم أرواحهم المبعثرة في كل الاتجاهات، فأيّ عيد هذا الذي يأتي متشحاً بالسواد والاشتياق لأحبة لم يعد الخيال يكفي لاستذكار ملامحهم وتفاصيلهم، ولا ما اختزنته الذاكرة من ذكريات.
هكذا يأتي العيد، كسحابة تعبر السماء على عجل فلا تمطر غيثها كاملاً، تترك ناسها على جذع يابس يحلمون بغمامة الندى تعود إلى وديانها الخضراء ورباها الظليلة.. هي لعبة الحياة تنال منا حين يباغتنا الفقد ونحن في غفلة من لحظاتنا، ودائماً كنّا نتجاوز غدره وكأننا نطمئن أن أحبتنا وأصحابنا بعيدون عنه وعن فجيعتنا بهم، لكننا وعلى حين فقد نرى أنفسنا نبكي أرواحاً غادرتنا كانت تملأ حياتنا حباً وعطاءً، والأمهات مازلن يسجّلن في سفْر المجد تاريخاً يختصرن فيه أبجدية اللغات ويزينّ أرواحنا بالبهاء، ويرسلن من صبرهن غمامة من جليل العطاء يغسلن الكون بمائها المبلل بالأمل والأحلام وصيرورة الحياة، ويضئن الشموع لمواكب الشهداء حتى يزهر ربيع الوطن.