الفن التشكيلي الفلسطيني.. مسيرة كفاح
تطوّر الفن التشكيلي الفلسطيني بمواكبته القضية الفلسطينية، وأضحى أحد أهم أدوات النضال الثقافي الوطني إلى جانب ما يتاح من أدوات النضال الأخرى التي امتلكها الشعب الفلسطيني في مواجهة الاحتلال وسياسة الإلغاء وطمس الهوية، كما رافق الفعل النضالي اليومي للمقاومة الفلسطينية ومرّ بمراحل زمنية متعاقبة ورديفة لإيقاع الحياة النضالية الطويلة، فمنذ بداية النكبة عبّر الفنانون العرب في سورية ومصر وبعض البلدان الأخرى عن مأساة التهجير والاقتلاع والتشرد التي يعاني منها الشعب الفلسطيني الذي لجأ إلى أماكن الشتات والمخيمات وأضحى شعب الخيام والبؤس، وبدأت رحلة عذاب هذا الشعب الطويلة وآمال حلم العودة الذي بدأت ترتسم ملامح تحقيقه مع انطلاقة ثورته المسلحة في بداية العام 1965 حيث بدأت بالظهور علامات بصرية تشي ببداية فن تشكيلي فلسطيني حقيقي كجزء من قضية شعب يناضل من أجل العودة واستعادة الديار المغتصبة، هذه البدايات كانت بفن الملصق أو البوستر الدعائي الذي يتوجّه نحو الشعب ودعم توجهه إلى السلاح كطريق وحيد لاستعادة الأرض، فظهرت صورة الفدائي الذي يعتمر الكوفية ويتجاوز النار والموت كبطل حقيقي يمثل هذا الشعب، كما صوّر البوستر جوانب من معاناة الفلسطينيين في الخيام ودعوة العالم للتضامن معهم، واستمر هذا الفن السياسي مرافقاً لمراحل تطور الحياة العسكرية والسياسية تبعاً للوقائع الجديدة، وأضحى الفن الدعائي الصبغة الأساس في المنتج التشكيلي الفلسطيني لعقود.
في هذا المقام نذكر أن المؤسّسات الثقافية والإعلامية الفلسطينية والعربية قد ساهمت مساهمة فعّالة في تطور فن الملصق وطباعته وتوزيعه إلى أنحاء العالم، ومع هذا التطوّر تحوّل بعض المصوّرين من الفنانين إلى هذه الصناعة من الفن وطبعت اللوحات كملصقات واستخدمت مختلف التقنيات لخدمته، كما شارك في هذا النوع من الفن العديد من فناني العالم المتضامنين مع القضية الفلسطينية من كوبا وفيتنام وباقي دول أمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية، فضلاً عن مساهمات قوية للفنانين العرب وخاصة السوريين، ومنهم عبد القادر أرناؤوط ونذير نبعة الذي عمل في صفوف الثورة الفلسطينية وحمل السلاح في أغوار الأردن إلى جانب الفدائيين الفلسطينيين، ونذكر هنا بعض أسماء الفنانين الذي قدّموا ملصقاً فنياً يُحسب لهم من حيث القيمة الفنية والوظيفة: عبد الرحمن المزين، مصطفى الحلاج، صالح جميعي، منى السعودي، محمد شبعة، جمانة الحسيني، مالك المالكي، توفيق عبد العال، خزيمة علواني، شفيق رضوان، رافع الناصري، عبد المعطي أبو زيد، برهان كركوتلي، ضياء العزاوي، محمد المليحي، جمال الأفغاني، جمال الأبطح، محمود الخليلي، غازي نعيم.
هذا المنتجُ الكبير من الفن ربما يعتبر السجل الأرشيفي ليوميات النضال الفلسطيني، فهو الموثّق لأسماء الشهداء وصورهم والمندّد بالمجازر والفظائع الإسرائيلية والداعي للتضامن مع القضية الفلسطينية والمدافع الجمالي عن القدس والخليل، حتى أضحى يتبوأ المكانة الأهم في الأداء الفني التشكيلي الفلسطيني، واكتسب صفة الفن المقاوم والمرافق لفعل الثورة والمقاومة الفلسطينية.
في التصوير كانت البدايات مع رواد الحركة التشكيلية الفلسطينية إسماعيل شموط وتمام الأكحل الذين رسموا بدايات النكبة الفلسطينية وكيف خرج الفلسطيني من بيته وبيارته إلى أماكن جديدة يلفه الفقر والبؤس. وقد عاش هؤلاء الفنانون مثلهم مثل بقية أبناء شعبهم مرارة اللجوء، حيث رسموا عشرات اللوحات التي تمثّل حال أهلهم ومعاناة اللجوء، وهو الموضوع الأساس في لوحات شموط والأكحل، بالطبع كان لهذه الأعمال قيمة كبيرة في تعريف العالم بمأساة الشعب الفلسطيني من خلال المعارض والأنشطة الفنية الموازية. ومع تطور الرواية الفلسطينية المناضلة في مواجهة رواية الاحتلال الصهيوني كان لا بدّ من خطاب جمالي يفرضه تطور الوعي بأدوات الفعل الجمالي، وقد بدأت ملامح العودة إلى الأسطورة والتاريخ الكنعاني ورسم أزلية الفلسطيني والبرتقال والقدس والحلم الإنساني الذي يدحض رواية المغتصب المدجّج بعنصريته وادّعاءاته وحديد آلته القاتلة التي خلفت المجازر والحرب والدمار.. كان لا بد من خطاب أكثر بلاغة يفعل فعله في التاريخ والضمير الإنساني أمام قضية عادلة أضحت قضية العالم بأنه ما زال هناك من يحتل ويطرد شعب، وأن هناك من يعتقل مدى الحياة، هذا المحتل لن يكون إلا عدواً للون والحياة.
لقد تنوّعت المنتجات الفنية الفلسطينية واغتنت بمستواها الفني والتقني وتوزعت ضمن أساليب واتجاهات مثل النحت والخزف والمشغولات النسوية والتراثية، ولعبت دورها في تأكيد الهوية الفلسطينية بمواجهة سياسة الطمس والإلغاء التي تمارسها سلطة الاحتلال الصهيوني.
في ثمانينيات القرن الماضي بدأت ملامح جديدة أيضاً في اللوحة الفلسطينية رسمها أبناء أراضي 48 مع بقية الفنانين في الشتات مثل الفنان سليمان منصور صاحب لوحة جبل المحامل وقطاف الزيتون والعديد من الأعمال العظيمة لهذا الفنان المصور، إلا أن أحد هذه الملامح الفارقة الأخرى كانت للفنان الراحل مصطفى الحلاج من خلال مجموعة لوحاته المحفورة بالأبيض والأسود، وتمثل أسطورة هذا الشعب الذي يحمل نعشه كشهيد، هذا الفنان الذي يشكّل العلامة الفارقة في الفن التشكيلي العربي الملتزم قضية شعبه، وقدّمها من خلال مناخها الميثيولوجي معتمداً الأسطورة الفلسطينية القادرة على ولادة أخرى، وأنها تنتمي لشعب لا يموت وسيقاتل جيلاً بعد جيل حتى استعادة أرضه وقدسه الشريف وبناء دولته الفلسطينية، أما النموذج الآخر الذي مثله الفنان عبد الحي مسلم الذي توفي في الأردن منذ سنوات قليلة فهو النموذج الفريد للفنان الفطري الذي رسم المواضيع الشعبية الفلسطينية مثل زفة العروس وقطاف الزيتون ويوميات القرية الفلسطينية، وهو الفنان الذي عاش سنوات يفاعته في فلسطين وعرف حواكير القرية وبيادر القمح وعاش أفراح أهله وأحزانهم، يرسم وكأنه لم يغادر ذلك المكان المقدس من البلاد، وقد أنتجت محطات تلفزيونية أوربية العديد من الأفلام عن هذا الفنان، وكان أحد هذه الأفلام بعنوان “نشارة الذهب” لأنه يستخدم نشارة الخشب بعد تلوينها في رسم “روليفات” لوحاته، وسبق أنه كان يرسم في بيروت أثناء الحصار والقصف وقد زاره موفد أمريكي هو القس جيسي جاكسون الذي اصطحب معه إحدى لوحاته قبل أن تجفّ!.
قائمة طويلة من أسماء الفنانين الذين كرّسوا حياتهم لفلسطين: عبد المعطي أبو زيد، عبد مرضعة، محمد الوهيبي، علي الكفري، وتبعهم جيل جديد من الفنانين الذين تقدمت اللوحة بأدائهم المبدع وأصبح واضحاً أن هناك فناً تشكيلياً فلسطينياً يحتل المكانة المرموقة في المنتج التشكيلي العالمي باعتباره فن قضية عادلة، يحقق كل شروط الإبداع الحقيقية، وأهمها خلق الحياة وتعزيز النصر فيها.
أكسم طلاع