تحت سطح الفساد والتحويلات النقدية هناك حفرة لا قعر لها من الدم الحرب على سورية: الحكومات الغربية تتستر على فضائح “ماي دي” و”الخوذ البيضاء” المالية
“البعث الأسبوعية” ــ تقارير
أثبتت الحرب القذرة على سورية أنها كانت بمثابة بقرة حلوب لبعض أبرز عملاء ومقاولي سياسة “تغيير النظام” في كل من أمريكا وبريطانيا. فقد حصل متعاقدو الحكومات الغربية على مئات الملايين من الدولارات لإدارة مخططات زعزعة الاستقرار في سورية، وبعضهم اقتطع لنفسه حصصاً معلومة، مستفيداً من عمليات النهب القائمة.
وكانت مؤسسة “ماي دي إنقاذ” أحد اللاعبين الرئيسيين في الصناعة المحلية للمقاولين الذين ساعدوا في إدارة حرب “تغيير النظام”، وقد تم الكشف مؤخراً عن تورطها في فضيحة فساد واسعة النطاق، إذ عملت كراعٍ مالي لـ “”الخوذ البيضاء””، أو ما يسمى “جهاز الدفاع المدني” المشغل في مناطق سيطرة الجماعات الإرهابية في سورية، وذلك في إطار عملية تدخل إنساني مزعومة أصبحت سلاحاً دعائياً رئيسياً في الحرب.
ويأكثر من 120 مليون دولار كتمويلات من حكومات غربية عديدة، تم تصوير “”الخوذ البيضاء”” في حملات إعلامية منحطة وأفلام العلاقات العامة على أنها مجموعة خيرية نبيلة مكرسة لإنقاذ أرواح المدنيين. والحقيقة، فقد عملت المنظمة بمثابة بنية تحتية مدنية وطبية، حصرياً في المناطق التي أدارتها المجموعات الإرهابية، وتعاونت بشكل مكثف مع التكفيريين، بما في ذلك “داعش” و”القاعدة”، حتى أنه تم تصوير عناصرها وهم يساعدون في عمليات الإعدام العلنية في مناسبات عديدة. كما ساعدت “”الخوذ البيضاء”” تركيا، العضو في حلف شمال الأطلسي، في غزو بلدات شمال سورية وتطهيرها عرقياً كجزء من خطة لإعادة “توطين” تلك المناطق بالمرتزقة السوريين والأجانب الذين دعموا الرئيس الأخواني رجب أردوغان. وبعد الغزو، كان يتم تلقين تلاميذ مدارس تلك المناطق بالبروباغاندا الشوفينية التركية.
وبينما كانت الحكومات الغربية تغدق الثناء على “الخوذ البيضاء”، وتحول مبالغ ضخمة من أموال دافعي الضرائب الأوروبيين إلى المؤسسة الأم، مؤسسة “ماي دي إنقاذ”، ومقرها هولندا، كانت أيضاً تحقق بهدوء مع المجموعة بشأن قضايا الاحتيال، حيث وثقت سلسلة من تقارير وسائل الإعلام الهولندية كيف عرفت هولندا أن “ماي دي” ارتكبت مخالفات مالية خطيرة، لكن كبار المسؤولين تستروا عليها، ورفضوا إبلاغ البرلمان بذلك، بل وتجاهلوا التوصيات الصادرة لاستعادة عقود بملايين الدولارات؛ فقد خشي المسؤولون الهولنديون من أن فضح فساد “ماي دي” يمكن أن يضر بسياسة “تغيير النظام” التي تستهدف سورية، وقد يلطخ “الصورة الخيرية” التي تم بناؤها بعناية على مدى سنوات من الترويج المستمر والدعاية الخانعة لـ “الخوذ البيضاء”.
وكانت الفضيحة مثالاً مقلقاً بشكل خاص للمجمع الصناعي غير الهادف للربح، والذي يجتذب قلب الليبراليين الغربيين ليس فقط لتعزيز مصالح السياسات الخارجية الغربية، ولكن لملء جيوبهم بملايين الدولارات التي تتدفق من خلال عقود مبهمة.
يوضح الجدل أيضاً كيف قام المسؤولون الغربيون بحماية المستثمري في الحرب مع إبقاء الناخبين الذين أهدرت أموالهم الضريبية بعيداً عن الفساد في وسطهم.
الحكومة الهولندية تتستر على التحقيقات
في 7 أيار، نشرت صحيفة “دي فولكس كرانت” الهولندية تقريراً كشفت فيه أن الحكومات الأوروبية، بما في ذلك بريطانيا وألمانيا وكندا والدنمارك وهولندا، ضخت ما يزيد عن 100 مليون يورو في “ماي دي” لتمويل “الخوذ البيضاء”، وأن الولايات المتحدة تدخلت أيضاً وأرسلت عشرات الملايين من الدولارات.
وقد ساهمت الحكومة الهولندية بمبلغ 12.5 مليون يورو، لكنها اشتبهت، بحلول أواخر العام 2018، بوجود فساد، وتوقفت عن تمويل المنظمة “بسبب مخاوف بشأن الرقابة المالية والتنظيمية” – كما كتبت “دي فولكس كرانت”.
وفي منتصف العام 2020، نصح جهاز التدقيق المركزي الهولندي الحكومة باستعادة أكثر من 3.6 مليون يورو من أموال الضرائب التي قدمتها إلى “ماي دي”.
لكن الحكومة الهولندية لم تطالب بهذه الأموال، وبدلاً من ذلك، قررت وزيرة التجارة الخارجية والتعاون الإنمائي الهولندي، سيغريد كاغ، وحسب، إيقاف الدفعة النهائية، البالغة 57000 يورو، إلى “ماي دي”، أي ما يعادل فقط 1.6 في المائة مما أوصى به مكتب التدقيق بشأن الأموال التي يجب إعادتها إلى خزائن الدولة. ولكن، حتى هذا القرار الهزيل كان رمزياً إلى حد كبير، لأن “ماي دي” كانت أنفقت بالفعل أكثر من 120 مليون دولار في العقود الحكومية التي تلقتها، وأفلست بحلول ذلك الوقت الذي قررت فيه كاغ وقف المدفوعات.
وفي رسالة إلى الحكومات الغربية، اعترف مؤسس ومدير ” ماي دي إنقاذ”، المنتحر، جيمس لو ميزورييه، بممارسة الاحتيال والسلوك المالي غير الأخلاقي، مثل قبض “رواتب عالية جداً ومكافآت نقدية وضرائب غير مدفوعة”، كما أشارت الصحيفة الهولندية.
لكن الصحيفة أوضحت أن التحقيق في الاحتيال أصبح نقطة خلاف داخل الحكومة الهولندية، وأن المسؤولين الذين أيدوا حرب “تغيير النظام” في سورية سعوا للتقليل من شأن الفضيحة.
وقد أرادت الوزيرة كاغ إبلاغ البرلمان بالتحقيق في الاحتيال، فكتبت خطاباً اعتزمت إرساله إلى مجلس النواب الهولندي، لكن واجهت ضغوطاً رقابية شديدة، كما أصر كبار مسؤولي الخارجية على أنها غير معنية قانونياً بإرسالها، على خلفية مخاوف من أن مثل هكذا مبادرة “قد تضر بشكل غير عادل” بشركة “ماي دي” وبتنظيم “الخوذ البيضاء”.
وكانت النتيجة أنه لم يتم إرسال الرسالة، ولم يتم إبلاغ النواب مطلقاً بالفساد المعروف، ولم يتمكن دافعو الضرائب الهولنديون من معرفة أن “ماي دي” أساءت استخدام مبالغ ضخمة من الأموال التي تلقتها من العديد من الحكومات المانحة، بما في ذلك حكومتهم.
يعترف.. ويموت!!
في تشرين الثاني 2019، لقي مؤسس مؤسسة “ماي دي إنقاذ”، ضابط المخابرات العسكرية البريطاني السابق، جيمس لو ميزورييه، مصرعه في ظروف غامضة في اسطنبول، وقالت السلطات التركية – آنذاك – إنه انتحر بالقفز من الطوابق العليا من الفندق حيث يقيم.
وقد عمل لو ميزورييه في الجيش البريطاني في أيرلندا الشمالية ويوغوسلافيا السابقة، قبل أن يعمل لاحقاً في شركات الأمن الخاصة. وبحلول عام 2014، أسس “ماي دي إنقاذ”، وأصبح رجل الغرب المفتاحي الذي يدير العمليات النفسية لـ “الخوذ البيضاء”.
وبينما قامت وسائل الإعلام الغربية الخاصة بتغطية أعمال الشركات بتسويق لو ميزورييه كبطل إنساني، كان هو وزملاؤه يجنون الأموال الطائلة من خطط “تغيير النظام”. وقد اعترف لو ميزورييه، قبل ثلاثة أيام من مصرعه، بارتكاب مخالفات مالية خطيرة، وأرسل، في 8 تشرين الثاني، رسالة عبر البريد إلكتروني إلى الدول المانحة يعترف فيها بأن “ماي دي” قد ارتكبت عمليات احتيال، وقال إنه زور إيصالات، وكتب: “أنا أتحمل وحيداً المسؤولية الكاملة عنها”. لكنه أصر على أن الفساد يجب ألا يخرج إلى العلن، لأنه تسريبه إلى وسائل الإعلام سيكون، في حال حدوثه، بمثابة “انتصار لروسيا والمتصيدين الموالين للأسد”.
ولقد أوردت صحيفة “دي فولكس كرانت” ذلك، في تموز 2020، في مقال بعنوان “مؤسس المؤسسة التي تقف خلف ستار الخوذ البيضاء يعترف بالاحتيال”. وأشارت آنا فان إيس، الصحفية التي شاركت في إعداد التقرير، إلى أن الحكومات الغربية التي مولت “الخوذ البيضاء” استجابت لتحذير لو ميزورييه، و”التزمت الصمت بشأن المخالفات”.
والحقيقة فإن التقرير يوضح أن مكتب محاسبة هولندي، بدأ التحقيق في ممارسات “ماي دي” المالية، في تشرين الثاني 2019، وجد أن لو ميزورييه قام بتزوير الإيصالات ودفع الأموال لنفسه شخصياً، كما يكشف عمق الشكوك في التعاملات المالية لشركة “ماي دي”. وفي حين أن المؤسسة كانت تُصوَّر في تغطيات وسائل الإعلام الغربية كمنظمة إنسانية خيرية غير ربحية، إلا أنه كان لها في الواقع فروع تجارية تتوخى الربحية في تركيا ودبي.
وكتبت “دي فولكس كرانت”: “لم يكن هناك مجلس إشراف (داخل المؤسسة)، ما يعني أن المديرين يمكنهم تحديد رواتبهم بأنفسهم، والتي قد تصل في بعض الحالات إلى 26 ألف يورو شهرياً”؛ ويعني أيضاً أن بعض موظفي “ماي دي” كانوا يتقاضون رواتب تقدر بحوالي 380 ألف دولار في السنة. وأشارت الصحيفة إلى أن “هذه الأرقام أعلى من سقف الرواتب المعتمد لمنظمة تتلقى الدعم في هولندا”. إضافة إلى ذلك، فإن لو ميزورييه وزوجته – وهي أيضاً واحدة من الإداريين – ومسؤولاً ثالثاً سيدفعون لأنفسهم مكافآت نقدية، بالإضافة إلى رواتبهم”.
وقد رفضت زوجة لو ميزورييه، إيما، عمليات الاحتيال التي اعترف بها زوجها المنتحر، وهاجمت بقوة على تويتر كل صحفي أتى على ذكر الفضيحة.
ومع ذلك، فقد اعترف كور فريسفيجك، وهو مسؤول إداري تم تعيينه على أمل تنظيف سمعة “ماي دي”، بأن الرواتب الهائلة كانت بالفعل “فاحشة”، لكنه أضاف أن “الدول الغربية المانحة كانت على علم بذلك وقد أعطت موافقتها”.
ضمان “الحد الأدنى من الانكشاف“
في أيار 2021، كشفت “دي فولكس كرانت” أنه عندما علمت الحكومات الغربية بفضيحة الفساد في مؤسسة “ماي دي إنقاذ” خططت على الفور للتستر عليها؛ وعندما اعترف لو ميزورييه بالاحتيال، ليلقى مصرعه بعد ثلاثة أيام، عقد الدبلوماسيون الغربيون على وجه السرعة سلسلة “اجتماعات أزمة” في القنصلية الهولندية في اسطنبول”، كما قالت الصحيفة.
وكتبت الصحيفة: “ترى هولندا نفسها “هشة للغاية” سياسياً، وفي نهاية المطاف، فإن مقر “مؤسسة ماي دي يقع في أمستردام، وتم دفع الملايين عبره من خلال حسابات هولندية”.
ورغم أن المحاسبين وجدوا مخالفات خطيرة، إلا أن الدول المانحة واصلت محاولاتها لاحتواء الأضرار،
واجتمع دبلوماسيون غربيون مرة أخرى في اسطنبول، وفي شباط 2020، لمناقشة “تجنب المخاطر السياسية” وطرق ضمان “الحد الأدنى من الانكشاف”.
وقامت شركة محاسبة تدعى “غرانت ثورنتون” بالتحقيق في ملفات “ماي دي”، وقالت إنها لم تجد دليلاً من الناحية الفنية على الاحتيال يتجاوز ما اعترف به لو موزيرييه، ولكن ذلك يرجع إلى حد كبير إلى أن الشؤون المالية للشركة كانت في حالة من الفوضى لدرجة أنه كان من المستحيل تقريباً تدقيقها. وكما قال مسؤولون في الحكومة الهولندية لصحيفة دي فولكس كرانت: “لا يمكن إثبات الاحتيال لأن الأجزاء المهمة” من الحسابات” لا يمكن تتبعها”.
وكتبت الصحيفة: “كان مسك الدفاتر غير ملائم على نحو خطير”. لم يكن هناك إشراف مالي داخلي، وتبين أن المدفوعات لا يمكن تتبعها بعد ذلك”.
وتتابع الصحيفة: لم يهدئ التقرير مخاوف وزارة الخارجية، فقد أثارت النتائج التي توصلت إليها “غرانت ثورنتون” الشكوك حيال دقة التقارير المالية التي قدمتها “ماي دي”. ووفقاً للمسؤولين: “لا يمكن التأكد على وجه اليقين” من أن الدعم الهولندي قد تم بالفعل إنفاقه على “الخوذ البيضاء”. وعندما يتم توجيه السؤال لضابط ما عن النفقات التي لا يمكن تدقيقها، يجيب زميله: “جميعها صرفت على “الخوذ البيضاء””.
تمويل مستمر رغم الفساد
على الرغم من الفساد الذي قامت الحكومة الهولندية بتوثيقه إلا أنها واصلت تمويل “الخوذ البيضاء”، وضاعفت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي حربهما القذرة ضد سورية.
وقد فرضت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أحد أكثر أنظمة العقوبات عدوانية ووحشية في التاريخ الحديث لزعزعة استقرار سورية والإطاحة بحكومتها، وأدى الحصار، الذي يرقى إلى مستوى جريمة حرب عملياً، إلى نقص واسع النطاق في الوقود وأزمة غذاء.
في غضون ذلك، استأنفت هولندا دعمها لـ “الخوذ البيضاء” خلال جائحة كوفيد -19، في العام 2020، مدعية أنها تعمل لتقديم المساعدة الإنسانية للأراضي التي يسيطر عليها “المتمردون” في سورية. وتمكنت الحكومات الغربية من الاستمرار في تمويل “الخوذ البيضاء” دون أي عوائق، وذلك إلى حد كبير جراء رفض وسائل الإعلام الغربية، ودون استثناء تقريباً، الاعتراف بأية سلبيات بشأن هذه المجموعة التي تعمل بالوكالة.
ولم تحظ تقارير وسائل الإعلام الهولندية بشأن فساد “ماي دي” بأي اهتمام في البلدان الأخرى. وهو ما يمكن تفسيره جزئياً بأن لو ميزورييه قد أقام العديد من الصداقات وسط مجتمع الصحافة الغربي، وزرع الصحفيين كـ “شهود” احتياطيين في الحرب القذرة على سورية، من خلال تغذيتهم بالسبوق الصحفية، وحتى تسهيل رحلاتهم الدعائية إلى سورية عبر الحدود التركية.
وليست “ماي دي” المقاول الحكومي الغربي الوحيد المتهم بالفساد. فقد تلقت مجموعة ضغط أخرى لـ “تغيير النظام” تسمى لجنة “العدالة والمساءلة الدولية”، تمويلاً يقدر بنحو 42 مليون يورو من الولايات المتحدة وأوروبا الغربية للمساعدة في شن حرب قانونية ضد سورية، وقد تعاونت مع تنظيم “القاعدة” في هذه العملية.
وقد تم التحقيق مع هذه اللجنة بتهمة التزوير واسع النظاق، واتهمت رسمياً من قبل مكتب مكافحة الاحتيال الأوروبي بتقديم مستندات وفواتير غير منتظمة وممارسة التربح”؛ بل إن الجهاز الانضباطي في الاتحاد الأوروبي أوصى بأن تقوم السلطات القانونية في المملكة المتحدة وهولندا وبلجيكا بمقاضاة اللجنة، ولكن ما حصل هو أنه تم تجاهل ملفات فسادها بالكامل في وسائل الإعلام الخاصة بالشركات أيضاً؛ فقد بذل “المعارف” و”الزملاء” جهوداً كبيرة لتصوير فضيحة الاحتيال الموثقة بدقة على أنها حملة خبيثة من المعلومات المضللة التي يفترض أن الكرملين قد بدد جهوده فيها.
وساعدت الحكومات الغربية كتبة الصحافة على حماية مستثمري الحرب من أي عواقب، حيث قامت هذه الحكومات بخداع دافعي الضرائب في العديد من البلدان من خلال مبالغ ضخمة من المال، كل ذلك في حملة صليبية يائسة وحاقدة لتدمير سورية.
واليوم، لا تزال الحرب القذرة على سورية تخفي في طياتها مجموعة مذهلة من الفضائح التي لم تمسها وسائل الإعلام الغربية، أو أنها تسترت عليها، من الدور الذي لعبته “الخوذ البيضاء” في شن هجمات كيميائية مزيفة إلى إسكات الحكومات الغربية ومعاقبة المحققين والخبراء العلميين في منظمة حظر الأسلحة الكيميائية.