يوم الكتاب العالمي.. دم الحبر على قارعة الطريق المطالعة محادثة مع أشرف العقول والكتاب الورقي ذاكرة لألف عام
“البعث الأسبوعية” ــ جُمان بركات
التاريخ الرمزي لـ 23 نيسان، من كل عام، ذكرى عطرة للمشتغلين في حقل الكتاب والثقافة، فهو اليوم التي أقرته اليونسكو عيداً لصديقهم في الأنام ولرفيق أمسياتهم وبطل ندواتهم وتجمعاتهم، الحبيب المتفرد: الكتاب؛ والذكرى تمر بنبضها الخاص في القلوب لأنها في الأصل كانت ذكرى وفاة ثلة من الرعيل المؤسس للفكر العالمي من الأدباء العظام: شكسبير، ميغيل دي سرفانتس، ودي لافيغا.
على قارعة الطرق والزوايا المرافقة للتكايا الروحية لمريدي التعلق بالقدر، يوجد أسواق صغيرة من الكتب للتبادل والحوارات ولملح النقاش التاريخي بين المبدع والمتلقي، وهناك يطيب للمثقفين والمهتمين بالتاريخ المكتوب وأمهات الكتب أن يجدوا ضالتهم من الكتب النادرة، أدب الشرق والغرب والشمال والجنوب، كأنه يضرب كل عام موعداً له للقاء في “أم الدنيا”، ودرة التاريخ المعتقة، دمشق.. لا فرق للمثقف، المتلقي، أكان الكتاب على أفضل رف من رفوف مكتبة عريقة، أم على جدار قرب ياسمينة تتكئ على جدار التكية السليمانية؛ المهم لدينا هو الحصول على تلك الجرعة الدائمة من روح الكلمات!!
بهذه المناسبة، كان لا بد لنا من الوقوف مع بعض الأقلام السورية للحديث أكثر عن نبضهم وحبرهم، وما يعنيه لهم عيد الكتاب العالمي.
صراع
ثمة صراع حقيقي للكتاب مع نفسه، وليس ضد نفسه؛ هو صراع له علاقة بالتطور التقني وبوسائل نشر المعلومات وحفظها وتخزينها. وعن يوم الكتاب يقول د. وائل بركات: بينما كان الكتاب الوسيلة الأساسية والوحيدة لنشر العلم والمعرفة والثقافة والفكر والأدب، ظهرت منذ عدة عقود أجهزة منافسة حولته إلى ندّ لنفسه، وغريم لها في الوقت نفسه. كانت القراءة محصورة بالكتاب، فتجد الناس يتأبطونه ليقرؤوه في أي فرصة سانحة، أو أي مكان ملائم، كوسائط النقل العامة أو الحدائق أو المقاهي، أو غيرها من الأماكن التي يمكن للكتاب أن يكون فيها خير جليس، ناهيك عن البيت والمكتبة وأماكن الدراسة المختلفة، لكن شبيهاً مزيفاً – بنظر كثيرين – ظهر لينازع الكتاب في عقر داره، مستخدماً صورته نفسها، ومعلوماته ذاتها، سينسبها إليه قائلاً إنه يوفرها للقراء بطريقة أفضل وأسرع، بحيث يصبح الكتاب، أو مجموعة من الكتب – قد تصل إلى عدة مئات، وقد يحتاجها القارئ في أي وقت – ملازماً لهم لأنه محمل على جهاز إلكتروني صغير أصبح رفيقاً لهم في كل مكان.
هل ضاعت هيبة الكتاب الورقي؟ يكفي أن نضيف كلمة “ورقي” حتى نعرف أنه أصبح منَازَعَاً على مكانته التي ظل محتفظاً بها منذ ولادته قبل آلاف من السنين!!
يجيب د. وائل: نعم! ضاع قسمٌ من مكانته أخذها منه شبيهه، وليس ضده، الكتاب الإلكتروني. وأقول الآن “قسمٌ”، لكن قد يحمل المستقبل القريب مفاجآت تضطرنا لاستخدام مفردة أخرى.. ربما تكون “أغلب” أو ما شابه. أنا شخصياً أحب الكتاب الورقي لما له من حميمية غُرست في أنفسنا مذ كنا صغاراً وبقيت معنا إلى الآن، لكنني أفضل التعامل مع الرقمي لأنه يتيح لي خيارات البحث عن أي مفردة أو فكرة أو تعبير باستخدام التقنية التي تعطيك النتائج بثوانٍ معدودة، بينما يحتاج الأمر إلى وقت طويل حتى تعيد استحضار شيء من هذا القبيل في الكتاب الورقي، كما أنني أستطيع تسجيل ملاحظاتي وأرشفتها على اللوح الإلكتروني بسهولة ويسر، ويمكنني تخزين الآلاف من الكتب التي قد أحتاجها في وقت ما، استحضرها متى أشاء، بينما كنت مضطراً للذهاب إلى المكتبة أو شراء كتاب أو استعارته لأقرأ معلوماته. وقد يقول بعضهم إن الإلكتروني متعب للعين بسبب انعكاسات الضوء منه، والرد البسيط هو أن القراءة في جميع الأحوال عندما تزيد عن وقت محدد متعبة للعين.
ويؤكد د. وائل أن الكتاب الورقي سيبقى، لكن عشاقه سيتراجعون لصالح غريمه الرقمي، ولاسيما مع الأجيال الجديدة التي لم تتعلق به كثيراً، ودخلت عصر الرقميات دون أن تمر بمرحلة حميمية الكتاب الورقي.
فرصة طيبة
لن يتحسر الكاتب سامر أنور الشمالي على الكتاب الورقي الذي عاش معنا لمئات السنين بعدما بات مهدداً بالكتاب الإلكتروني الذي تخلص من تكلفة الطباعة وتجاوز الحدود بكبسة زر، وتابع بالقول:
على الرغم من أنني أفضل الكتاب الورقي الذي اعتدت عليه وألفته بشكله الجذاب، وملمسه الناعم، ورائحته أيضاً، ولكن يجب الانتباه إلى أن الكتاب الورقي أتى بعد الكتاب المخطوط باليد، أي كان بداية لمرحلة جديدة في تاريخ الفكر البشري، ولعل هذا ما يحدث اليوم مع الكتاب الإلكتروني! مع العلم أن القضية الأساس ليست في شكل الكتاب، بل في حضوره بين أيدي القراء، سواء على الورق، أم على الشاشة، فالخطورة تكمن في تراجع نسبة القراءة والاعتماد على الثقافة البصرية المبسطة على شاشة الجوال والكمبيوتر التي تخلو من العمق الذي يؤسس لفكر تنويري بالفعل في هذا العصر، أما هذا الاشتغال على الترويج للثقافة المبسطة فليس بريئاً تماماً!
وأضاف الشمالي: على أي حال مناسبة يوم الكتاب العالمي فرصة طيبة للبحث في واقع الكتاب العربي وتقييم واقع الثقافة في مجتمعاتنا، لاسيما في زمن الحرب الذي يجعل الثقافة ترفاً أمام الشعور بالأمان أو الإحساس بالجوع؛ لهذا يجب إعادة النظر في واقع المؤسسات الثقافية العامة والخاصة، وطرح أسئلة صريحة حول الفعل الثقافي الجاد – بعيداً عن كاميرات التلفزيون – فهل الكتب التي تطبع حالياً تقدم إضافة يحتاجها القارئ؟ وهل القارئ المثالي لا يزال موجوداً؟ وفي حال وجوده، هل له تأثير ودور في المرحلة الراهنة؟!
الأم هو الكتاب
وتتفق الكاتبة غالية خوجة مع الشمالي برائحة ورق الكتاب، وعنه قالت:
الكتاب هو كل نص قابل للقراءة سواء ورقياً أو إلكترونياً أو أية وسيلة أخرى، والكتاب الورقي أمّ جميع الوسائل الأخرى، وأهمية الكتاب ناتجة عن مضمونه وأهميته للقارئ، ونستطيع اختزالها بأسئلة عديدة، منها: ماذا يضيف هذا الكتاب لثقافتي ومعلوماتي ومعرفتي؟ هل سيساعدني في تطوير مفاهيمي ومدركاتي الروحية والنفسية والسلوكية والعلمية والمعرفية والثقافية والإبداعية؟ وكيف أختار ما أقرأ؟ كيف أحاور وأناقش ما يطرحه الكتاب لأكون قارئاً تشاركياً وفاعلاً في عملية القراءة؟ الكتاب الورقي أساس الإلكتروني، فلولا الخوارزميات المكتوبة ورقياً لما استطعنا الوصول إلى الفضاء التكنولوجي؟
وتابعت خوجة: الكتاب الورقي يتفاعل مع حواسنا وحدوسنا ويعمل على تنشيط طاقتنا، وكذلك الكتابة بالقلم والورقة تجعلنا أكثر تثبيتاً للمعلومة والمفاهيم، لأنها تجعل أغلب الحواس متفاعلة، إضافة إلى المخيلة؛ ولا ننسى أن لرائحة الورق والكلمات المشعة من الورق رائحة الشجرة والغابات والطبيعة البرية مما يساهم في تفعيل حاسة الشم أيضاً.. رائحة الكتاب الورقي تمتصها ذاكرتنا وتجذبنا إلى طرائق أخرى من التفكير والتوغل في الذات والاستغوار في النص المقروء الذي يحضنه الكتاب بين أجنحته لنسافر مع نصه اللامقروء، وربما هذا ما يمنحه الكتاب الإلكتروني لأن المحور المهم ليس شكل الكتاب ورقياً أم إلكترونياً، بل ماذا يقدم؟ وكيف يقدم؟ وما جماليات المضمون وأهميته العلمية والمعرفية والثقافية والمخيلتية، وكيفية كتابة كل ذلك بشكل عميق شفيف فني ومتفرد؟ ماذا يضيف هذا الكتاب للأزمنة الماضية مما كُتب؟ وهل سيستمر مع الأزمنة القادمة؟ لربما العلاقة الحديثة بين الكتاب ووسائله المختلفة تجعلنا نعبر إلى هذه العلاقة التي تتشكّل معادلتها من مضمون الكتاب وكيفياته الجمالية أسلوباً كطرف أول وفاعلية القارئ وثقافته ووعيه القرائي كطرف ثان.
مناسبة لا أكثر
بدوره، الناقد أحمد هلال قال عن يوم الكتاب:
منذ زمن ليس بالبعيد كانت تزين قلب دمشق مكتبات باهرة الحضور والعلاقة مع المثقفين على اختلاف مستوياتهم، ويحدث أن تُستبدل هذه المكتبات بمحال تجارية صرفة، والأمر الأكثر مدعاة للألم أفول المكتبات الشخصية وتشظيها في مكتبات الرصيف، وبدورها أيضاً تبددت هويتها لتطل بعناوين هي الأقرب إلى الاستهلاك. وبعيداً عن مقولة فادحة “موت الكتاب” التي قد يروج لها على نحو أو آخر في الأوساط الثقافية والإعلامية، فإن الكتاب هو روح الأمة وعقلها، واستحضاره هو استحضار لوعي ناجز يليق بها؛ وعلى الأرجح أن مناسبة يوم الكتاب العالمي ستبدو أكثر من مناسبة للتذكير بالكتاب وأهميته الفائقة، فقد أصبح الكتاب الآن غابة من الشجن، لأنه ما زال يستدعي زمن القراءة وزمن صناعته فضلاً عن تسويقه وتلقيه، والأمر المحزن هو تراجع القراءة نتيجة أزمات مركبة، فصناعة الكتاب تتطلب مهارة من المؤلفين والكتّاب، وبدورها تتطلب مستهلكاً، ولكن يا تُرى، هل فقدنا هذا المستهلك اليوم وتغيرت أدواره لينتقل إلى الكتاب الإلكتروني – على أهمية هذا الكتاب.. وذلك الانتقال لازم لكنه غير كاف، فأهميته لا تنفك على أن تكون الإسهام المعرفي والحضاري في تكوين الشخصية الثقافية، فضلاً عن فتح آفاق في الوعي المجتمعي، والارتقاء بأفعال القراءة بوصفها أفعال الحياة، على الرغم من أن زمننا هذا يوسم بزمن الاستهلاك والاستلاب، الأمر الذي جعل الكتاب وكأنه حلم أو ترف أو في جزر معزولة، نتيجة تكلفته الباهظة وانكفاء الكثير من دور النشر عن صناعة هذا الكتاب تطيراً من كلفته الفادحة، لكن تراجع الكتاب باتت تحكمه عوامل وسمات ليس أقلها شيوع العالم الرقمي بوصفه بديلاً “واهياً” عن الكتاب الورقي، وهي مسألة جدلية بامتياز، إذ إنه لا يمكننا أن نكتفي بأحدهما على حساب الآخر، فالكتاب هو ذاكرة لألف عام وهو الوثيقة النهائية للعقل البشري، فكيف يمكن لنا ألا نحتاجه بالرغم من التحديات التي تواجه صناعة الكتاب بوصفه استحقاقاً لا بديل عنه، وهذا برسم المؤسسات الثقافية المعنية التي حسناً فعلت حينما جعلت للكتاب السوري غير معرض مستمر (الهيئة العامة السورية للكتاب، واتحاد الناشرين، واتحاد الكتاب العرب) في ظل اجتياح كورونا ومخاطره والإجراءات الاحترازية التي تُبذل لصد ذلك الوباء، وبالمعنى التشاركي الذي ينبغي له أن يتحقق بين هذه المؤسسات الفاعلة إنقاذاً للكتاب وتأكيداً على دوره في صوغ المعرفة، كما الشخصية الثقافية القادرة على الإبداع والخلق والتمكين المعرفي.
يوم الكتاب
بدأ الشاعر والباحث محمد قرانيا بعدة أسئلة تعجبية وهي:
العالم الحي يحتفل باليوم العالمي للكتاب!! أي كتاب يمكن أن نحتفل به في وطننا الجريح الذي تكالبت عليه شياطين الأنس من الشرق والغرب؟ وأي كتاب سنحتفل به ووباء كورونا يهدد الكاتب والعالم والطبيب والغني والفقير؟ الفكرة حضارية رائعة، ولكن هل يمكننا الاحتفال بهذا اليوم العالمي ونحن نعاني من الإرهاب والتهجير والنزوح والجوع والتشريد؟ الفكرة جميلة، وقد كنا نحتفل بالكتاب قبل أن يكون له يوم ترعاه المنظمة الدولية، فنحن أمة “اقرأ باسم ربك”، ونحن من أمةٍ أوصاها الجاحظ بالاهتمام بالكتاب والقراءة، فقال: “الكتاب خير جليس ساعة الوحدة” وعدّد مناقبه ومزاياه، وأكد أن المطالعة هي المحادثة مع أشرف العقول؛ وهنا يحضرنا قول شاعرنا المتنبي القائل: “خير مكانٍ في الدنى سرج سابحٍ، وخير آنيسٍ في الأنام كتاب”.. نعم وطني ينزف، وكورونا تهدد الأحياء، والمواطنُ الشريف يلهث وراء لقمة العيش، والكتاب في منأى عن الجميع!! آه يا جيلاً مضى وقد شهدت له الكتب بالقراءة والحفظ والعناية والرعاية!! يا جيلاً كان يقرأ كثيراً، ويسهر طويلاً مع الكتاب، يا جيلاً مضى في زمن لم ينافس فيه الكتابَ أيُّ منافس، لم ينافسه لا الفيسبوك ولا الواتس، ولا وسائل الاتصال التي تغذيها الشبكة العنكبوتية التي تخرّب العقول أكثر مما تعمّر، وتدمّر أكثر مما تبني وتعلّم.. نعم! نحن بحاجة للكتاب، كما نحن بحاجة للرغيف، وبحاجة للأمن والسلام أكثر من حاجتنا إلى التخاصم والاقتتال، بحاجة للحب في زمن افتقدنا فيه المودة والمحبة، وهل هناك غير الكتاب يعلمنا القيم والمبادئ والحب الحقيقي الصادق؟!