غواية الزبد
د. نضال الصالح
أمّا الغواية، فهي تعني هنا الفضاء الإلكتروني بمختلف علاماته اللغوية (مواقع التواصل الاجتماعي، والمواقع الشخصية والمدوّنات، والمواقع الإلكترونية) الذي وفّر هامشاً شاسعاً لكلَّ مَن حصل على شهادة محو الأمية في الكتابة وفي التعامل مع الشبكة العنكبوتية من أن يكون له حضوره في هذا الفضاء، ومن ثَمّ في توهّمه في أنّه أوتيَ “جوامع الكلِم”، فيحقّ له ما يشاء من القول، وما تجود به قريحته من الكلام، باسم الفكر أحياناً، والشعر أحياناً ثانية، والنقد أحياناً ثالثة، وباسمها جميعاً وبأسماء سواها أحياناً رابعة.
وأمّا الزبد، فهو ذلك الذي لا صلة له بالفكر، بل محض إنشاء، والذي لا علاقة نسب من أيّ درجة تربطه بالشعر، بل محض كلام، والذي لا آصرة واحدة بينه وبين النقد، بل محض شرح. وأمّا التضايف بين الغواية والزبد، فهو ذلك الذي يتكثّرُ، ويتمدّدُ، ويتقنّع، ويتورّم، بوصفه المشبّه به لا المشبّه، والحقيقة لا صورتها، والحقّ لا زوره، وإلى حدّ ينتهي بالمتابع معه إلى نتيجة لا توءم لها، هي أنّ العرب وحدهم، كما يبدو، هم أكثر الأمم والمجتمعات طواعية لاستثمار هذا الفضاء على نحو شائه، بل شديد التشوّه والإمعان في الضلالة والتضليل.
ولعلّ الفضاء الأزرق (فيس بوك) هو أكثر الفضاءات الإلكترونية، الذي تجهر علاقة التضايف هذه عن نفسها فيه، فهو الأكثر الذي استقطبَ إلى حقله المغناطيسي المتضادات جميعاً، من المفكّر حقاً إلى نقيضه العاطل عن التفكير، ومن الشاعر حقاً إلى نقيضه الوثيق الصلة بالمثل الشعبيّ الذائع الصيت عمّن يتوهم أنّه بصفّه الصواني يصير (حلواني)، ومن الناقد حقاً إلى نقيضه الذي لا يميّز التعريف العلميّ للنقد من ضدّه العامّي.
ومن أكثر القرائن دلالة في هذا المجال ذلك التصفيق المجّاني لنصّ ناحل، فكراً أو شعراً أو نقداً، الذي يسارع إليه مئات، وربّما آلاف، من (الفسابكة)، ولاسيما إذا كان النصّ لحسناء، أو نصف حسناء، أو شبه أنثى أحياناً، أو.. والذي غالباً ما يكون رصيده الأكبر من أولئك ممّن هم من سلالة أبينا آدم، الذين غالباً ما يفعلون ذلك، تصفيقاً أو مديحاً أو إطراء، من دون أن يكلّف أحدٌ منهم نفسه “مشقّة” القراءة، فيقف، مجرّد وقوف، على حقيقة انتماء النصّ إلى شيء من الفكر أو الشعر أو النقد، أو اللمعة على الأقلّ.
وبسببٍ من ذلك صار الفضاء الإلكتروني، ليس ما يعني مواقع التواصل وحدها، سوقاً يختلط الغثّ فيه بالثمين، والسقيم بالصحيح، والوجود بالقوة بالوجود بالفعل. وبسببٍ منه تحوّلَ من كونه فضاء للمعرفة في النشأة والغاية إلى فضاء لظلالها في الواقع والمآل، ومن نسبته إلى التنوير إلى نسبته إلى التزوير، ومن وصفه، حسب “بيل غيتس”، بالساحة العامة للقرية الكونية إلى وصفه بالساحات المتناهية في الضآلة على مستوى الوهم والإيهام بآن.
وبعدُ، وقبلُ، فللكاتب والممثل الأمريكي الساخر قوله: “أكبر منوّم في التاريخ هو شاشة صغيرة أمامك تملي عليك ما يجب أن تؤمن به على أنه الحقيقة”.