دمكم الطريق
واحد من أهم الدروس التي تعلمها السوريون خلال فترة الحرب المريرة التي عاشوا تفاصيلها لحظة بلحظة، وعلى مدار 10 سنوات، واختبروا ضراوتها بالطريقة الأصعب والأكثر إيلاماً، هو أن يمضوا قدماً فيما يعتزمون فعله، دون النظر أو حتى الالتفات لكل ما يشوش على عزيمتهم ويحاول أن يثني صوابية ما يختارونه في حيواتهم، ولو أنهم فعلوا غير ذلك، لما أنجزوا أي شيء مما أنجزوه في الزمن الصعب، وإن كانت الحياة هي الأغلى، فلقد دفعوا عنها الموت بالموت، وهذا هو فعل الأنبياء والشهداء. ثمة أجيال من السوريين اليوم يحيون آمنين مطمئنين لأن أخوتهم في الوطن زادوا عنهم بدمهم، هؤلاء لو التفتوا لكل الجعجعة القادمة من خارج الحدود، والتهديد والوعيد الرخيص الذي تعرضوا له في كل مفصل هام من مفاصل حياتهم، لكانت تلك الحياة التي تسري في العروق اليوم، هي في مكان آخر مختلف تماماً، الأمر الذي أدركوه وتيقنوا منه منذ بداية الطريق الصعب، ولتثبت الأيام بمرورها صدق ما عرفوه بالفطرة قبل الدليل، وبالإيمان قبل التجربة.
الاستحقاق الانتخابي هو اليوم من الشؤون الشخصية التي يقدم عليها أبناء البلاد، وهم موقنون بكونها من أفعال الحياة، التي ضحى أخوتهم بأرواحهم لتبقى وتستمر وتهزم الصعاب، لذا فلا المحطات التلفزيونية “المدفوعة” بما تحمله من “عواجل” لا تهدأ عن السوريين وأحوالهم، ولا منصات السوشيال ميديا المختلفة، بما تنضح فيه من أخبار “حامية”، ولا حتى الظروف المعيشية الصعبة التي يمرون بها، تدير رؤوسهم عن المشاركة في هذا الواجب الوطني، أما أجملهم، أكرمهم، أنبلهم، أهل الشهداء وعوائلهم، فهم في المقدمة.
ترفع أم سلمان – 65عاماً – ظهرها الحاني على شتلات تبغ مزروعة في “سكوبة” رعتها بريف العين، كما يقال. تنحدر أشعة الشمس على جبينها الملوح بسمرة شامخة، وعلى فمها ترتسم ابتسامة رضا غريب. الأم التي ودعت ثلاثة أبناء لقلبها، تحكي بشيء من الحزن الأليف، عن الأمل الذي تفجر من أجساد أبنائها ورفاقهم، وعن الحياة الغالية التي حققها استشهادهم: “أنا مزارعة، ولدت وعشت وسأموت بين الأشجار والحقول، في حياتي شهدت العديد من الظروف الجوية السيئة التي كانت تقتل الحياة في النباتات، رأيت أشجار زيتون تحترق، كروم تذوي، سهول قمح تجف، لكنني شهدت أيضا ولادة الحياة من قلب الموت، شجرة الزيتون المحترقة، نبت برعمها، قويت واشتدت وصارت حديقة، سنبلة القمح التي سقطت من الجفاف، صارت حبوبها الضامرة، بيادر جديدة، وهذا ما شهدته وعرفته ورأيته خلال الحرب، نعم قلبي منفطر، وروحي كسيرة، لا تصدق أن فقد الأبناء يُشفى منه، لكن ما كان سيقع لولا ما فعلوه ورفاقهم، هو وبلا نقاش الأسوأ، والحمد لله نجونا منه، رحم الله شهداؤنا، وشفى جرحانا، وحفظ الجميع، والانتخابات التي تجري اليوم، هي من بعض إنجازاتهم أيضا، أما صوت القلب والروح، فللصادقين”.
آية، الصبية الصغيرة، بنت 14 جديلة، الحرب وتفاصيلها المرعبة تملأ ذاكرتها بخوف عشش طويلاً بين أضلاعها اللينة، وفي صدر البيت، صورة لشاب وسيم يبتسم، إنه والدها الذي لا تعرفه كثيراً، لكنها تعرف عظيم ما فعل، وتدرك بروحها أن حياته كانت هي الثمن الأبهظ لوجودها برمته: “عام 2014 كنت لا أزال طفلة تحبو، حين غابت رائحة أبي الطاهرة عن البيت، عن ثيابي وعن بهجة العيد، كنا عائدين من القرية، عندما تعرضت مركبتنا لإطلاق نار كثيف عند مدخل دمشق، صدّ والدي الرصاص بجسده الذي جعله دريئة تحمينا وأمي وأخي الصغير، لا يزال صوت النار ورائحة البارود في رأسي حتى اليوم، ولإن الله يحب الأطفال، فقد صار كل الناس أهلي، الجميع يحترمون أنني ابنة شهيد، يحنون بمحبة، يمدون يد العون في كل شيء، وهذا يواسي”، تنظر آية لصورة والدها، لتعود من شرودها بضحكة محبة، تدور في فلكها ألف شمس، وتتابع: “لو استطيع المشاركة في الانتخابات، لماذا لا نعتبر مؤهلين لذلك؟ أنا أريد أن أشارك بما هو من حقي أنا قبل الجميع، لقد كبرنا في الحرب، وأمي تقول العام في الحرب بـ 10 أعوام، فانظر كم صار عمري، أريد أن انتخب رئيسي”.
جدة وحفيدة، تجربتان مختلفتان في الفقد، متحدتان في النتيجة، نافذتان مشرعتان على الحياة، تلك التي صنعتها الدماء، ولا شيء يعوض الخسارة إلا الكرامة، والاستحقاق الرئاسي هو فعل كرامة، ولو كره الكارهون.
تمّام علي بركات