حتمية زوال “إسرائيل”
د. معن منيف سليمان
تمكّن الشعب العربي عبر التاريخ من استهلاك جميع الغزوات الأجنبية، بامتصاص بعضها وصهره في بوتقة الحضارة العربية، أو بقذف بعضها الآخر خارج حدوده القومية. فقد تدفقت موجات الشعوب الأجنبية الغازية على أرض الوطن العربي واستطاعت الأمة العربية في هذا الوطن العريق أن تصمد أمام تلك الغزوات البربرية، وتجدّد وجودها وتستأنف تأدية رسالتها الإنسانية الخالدة.
فمنذ الألف الثاني قبل الميلاد تعرّض الوطن العربي لغزو شعوب بلاد البحر الجنوبية الذين غزوا جنوبي وادي الرافدين، واحتلّ الكاشيون بابل وأكاد، واحتلّ الحوريون- الميتانيون شمال شرق سورية، واحتلّ الحثيّون الشمال الغربي من سورية، كما غزا الهيكسوس سورية واحتلّوا مصر، وغزت شعوب البحر الأوروبية الساحل السوري.
وفي الألف الأول قبل الميلاد، احتلّ الفرس أجزاء من الوطن العربي، وكذلك احتلّ المقدونيون أجزاء واسعة منه، ثم احتلّ اليونانيون (السلوقيون- البطالمة) كلاً من سورية ومصر والعراق، واحتلّ الرومان قرطاجة والشمال الأفريقي.
وفي القرون الميلادية قبل الإسلام احتلّ الرومان تدمر وبلاد الأنباط، واحتلّ البيزنطيون سورية ومصر وشمالي أفريقيا، واحتلّت الحبشة اليمن وغزت الحجاز، واحتلّ الفرس اليمن والعراق.
وفي العصور الإسلامية احتلّ الصليبيون المدن الساحلية من بلاد الشام فضلاً عن مدينة الرّها، وغزوا مصر عدّة مرّات، واحتلّ السلاجقة العراق وبلاد الشام، كما غزا هذه البلاد المغول.
وفي العصر الحديث والمعاصر احتلّ العثمانيون معظم الوطن العربي، ثم ظهر الاحتلال الغربي الأوروبي وسيطر على عدة بلدان عربية في المغرب والمشرق العربيين، وأخيراً احتلّ الصهاينة فلسطين العربية وما زالوا حتى الآن.
من خلال هذا الاستعراض السريع لجملة الاحتلالات والغزوات التي تعرّض لها الوطن العربي منذ الألف الثاني قبل الميلاد حتى الآن، التي لم يبقَ منها سوى ذكرها في صفحات كتب التاريخ، يمكن أن نؤكّد حتمية سقوط “إسرائيل” وزوالها بفعل حركة التاريخ وقوانينه الموضوعية، فالشعوب الغازية المفتقرة إلى بيئة طبيعية وجذور حضارية هي شعوب زائلة، وإن تغلّبت بقوتها العسكرية لحين من الزمن، فهي إمّا أن تمتصّها الشعوب المغلوبة منتصرة بحضارتها المتفوقة، وإمّا أن تبعثرها أحداثاً طارئة جامحة وتقتلعها من تربة هي غربية عنها. فالقوة العسكرية لم تكن يوماً تعرف إلا وسيلة مؤقتة تضطرّ الدول إلى استعمالها لكي تحلّ عقداً مستعصية على المنطق السلمي الصحيح، وعلى الحق الذي تهضمه القوى الغاشمة. أمّا أن تكون القوة العسكرية هي المقوّم الوحيد لإنشاء دولة قومية تكون نواة قاعدة حضارية كبرى لاستمرار تلك الدولة القومية، فذلك لم ينجح ولا مرّة في التاريخ إلا نجاحاً عابراً كان يعقبه دائماً انهيار مدمّر يترك خلفه الويلات والمحن.
أمّا الشعوب الحضارية الأصلية التي تعيش في بيئتها ووطنها، فإنها مهما غُلبت بقوة السلاح، فلابدّ أن تنتصر. فالبقاء لأصحاب الأرض الأصليين والزوال والانصهار للغرباء واللاجئين وإن طال الزمن. وما هذه الأمثلة على تعاقب الغزاة على احتلال وطننا العربي إلا دليل على أن “إسرائيل” آيلة إلى المصير نفسه إن طال الزمن أو قصر.
فالعرب أمة عربية واحدة عظيمة لها جذورها العميقة في تراثها الحضاري، وعناصرها الثقافية والقومية والدينية المكتملة والغنية بالعبقريات الإنسانية الخلاّقة، إذ لم تجفّ يوماً في نفوس أبنائها ينابيع الحيوية والعزم للصراع في سبيل بقائها وتفوقها. أما قطعان المستوطنين الصهاينة في فلسطين فليسوا من اليهود “الساميين”، بل من اليهود الخزر، الذين تعود أصولهم إلى روسيا وأوروبا. وإذا ما سلّمنا أن اليهود جميعهم قوم من الأقوام التي سُمّيت خطأً “السامية” التي عاشت في فلسطين مدّة من الزمن، فمن ذا القادر الآن على التدليل أن اليهودي الروسي أو الألماني أو الفرنسي أو الزنجي أو الحبشي هو استمرار لهؤلاء اليهود الذين كانوا في فلسطين في حقبة الحضور الكنعاني؟.
إن الصهيونية نشأت في أوروبا وليس في فلسطين، وهي ليست حركة ذاتية واستمرارية لطبيعة المشاعر اليهودية عبر التاريخ، وإنما هي حركة سياسية عنصرية استيطانية توسعية نشأت أواخر القرن التاسع عشر على يد الجماعات اليهودية الاستعمارية، التي تلقّفت الفكرة من الدول الاستعمارية وتبنّتها، وعملت على الربط الوثيق بين فكرة “القومية اليهودية” والدين اليهودي، من خلال صياغة أيديولوجية صهيونية عنصرية، استهدفت إيجاد المسوغات التاريخية والقومية والسياسية والدينية لما سمّته حق اليهود في إقامة وطن قومي لهم في فلسطين العربية.
والمؤرِّخ العربي وهو يضع نصب عينيه دحض الدعاوى الصهيونية فإنه يجب أن ينطلق من تحديد مصطلحات العبرانيين، والإسرائيليين، والموسويين، واليهود، ليدلّل على أنها ليست أربع تسميات لمسمّى واحد، بل لكل منها مدلول خاص. فالعبري أو العبراني، اسم كان يُطلق على البدوي نحو الألف الثاني قبل الميلاد، وفيما قبل ذلك على طائفة من القبائل العربية في شمالي جزيرة العرب في بادية الشام، وعلى غيرهم من الأقوام العربية في المنطقة، حتى صارت كلمة “عبري” مرادفة لابن الصحراء أو البادية بوجه عام، وبهذا المعنى وردت كلمة “الإبري”، أو “الهبيري”، أو “الخبيرو”، أو “العبيرو” في المصادر المسمارية والفرعونية، ولم يكن للإسرائيليين والموسويين واليهود أي وجود بعد. لذلك نعت إبراهيم الخليل بـ”العبراني” كما ورد في التوراة إنما أريد به معنى العبريين “العبيرو” وهم القبائل البدوية العربية، ومنها القبائل الآرامية التي ينتمي إليها إبراهيم الخليل نفسه.
ومصطلح عبري أو عبراني لم يرد في القرآن الكريم مطلقاً، وإنما ورد فيه ذكر الإسرائيليين، وقوم موسى، واليهود {الذين هادوا}. أما كلمة عبري للدلالة على اليهود، فقد استعملها الحاخامات بهذا المعنى في وقت متأخّر في فلسطين.
أما مصطلح “إسرائيل” فالمقصود به يعقوب حفيد إبراهيم الخليل وأبناؤه، ودورهم محصور في منطقة حرّان، حيث كان موطنهم الأصلي الذي ولدوا ونشأوا فيه، أما فلسطين، فهي أرض غربتهم، وقد وجدوا في القرن السابع عشر قبل الميلاد، وهو عصر إبراهيم نفسه، وكانت اللغة في ذلك العصر، لغة واحدة (اللغة الأم) التي كان يتكلّم بها أبناء الجزيرة العربية قبل هجرتهم إلى الهلال الخصيب، أي قبل أن تتفرق هذه اللغة إلى اللهجات المختلفة، كالكنعانية والآرامية والعمورية. وهكذا كانت لغة العشائر الآرامية التي كان ينتمي إليها إبراهيم الخليل، هي اللغة نفسها التي كان يتكلّم بها الكنعانيون والعموريون في فلسطين، وهي قريبة جداً من اللغة الأم. وحين أطلق الصهاينة اسم “إسرائيل” (ومعناه بالكنعانية: عبد إيل) على كيانهم الإرهابي في فلسطين إنما سرقوا هذا الاسم من الكنعانيين أصحاب الأرض الأصليين لأن “إيل” ببساطة هو إله الكنعانيين.
أما الموسويون “قوم موسى”، واسم موسى مصريّ بحت، فقد عُرف هذا المصطلح بعد الدور الذي تداولت فيه تسمية “إسرائيل” بزهاء ستمئة عام. والموسويون: هم الجنود الفارّون -على أرجح الاحتمالات- تصحبهم جماعة كبيرة من بقايا الهيكسوس في القرن الثالث عشر قبل الميلاد، وهؤلاء كانوا يدينون بدين التوحيد الخالص، وهو غير دين اليهود الذي يدعو إلى عبادة الإله “يهوه” الخاص بهم، بوصفهم الشعب المختار، وقد هرب موسى وأتباعه إلى أرض كنعان هرباً من اضطهاد الوثنيين، ثم أخذ هؤلاء الموسويون بلغة كنعان وثقافتها وتقاليدها، وما اسم صهيون الذي أطلقته الحركة الصهيونية على نفسها إلا اسم كنعاني أطلق على الجبل الشرقي في مدينة القدس.
وأخيراً “اليهود” وهي تسمية اختلف في أصلها العلماء والمؤرخون، ولكن أكثرهم رجّح أنها تسمية أطلقت على بقايا جماعة يهوذا الذين سباهم نبوخذ نصر في القرن السادس قبل الميلاد. كما أن تاريخ تشتّت اليهود على يد الرومان في القرن الأول الميلادي جعلهم خليطاً عرقياً متنافراً، بعد أن فقدوا وحدتهم العنصرية، فأخذوا يتكلّمون لغات ولهجات مختلفة هي لغة ولهجة البلد الذي استوطنوه.
وهكذا فإن إبراهيم وابنه إسماعيل ينتميان إلى القبائل الآرامية العربية، وهي تعود إلى ما قبل وجود الإسرائيليين والموسويين واليهود بعدّة قرون، فعصر إبراهيم هو عصر عربي قائم بذاته، ليست له صلة بعصر اليهود.
إن الهدف الحقيقي لمشروع صفقة القرن المزعومة هو إسقاط الرواية التاريخية الفلسطينية، وشطب الحق الفلسطيني الطبيعي والسياسي والقانوني في فلسطين، والاعتراف فقط بالرواية اليهودية المستحدثة صهيونياً.
لقد بات من الضروري والمطلوب أن يتطوّر فعل المقاومة الشعبية الفلسطينية والعربية للاحتلال، وأن يتحوّل إلى فعل جماهيري واسع النطاق، يرفض جميع أشكال إجراءات وسياسات الضمّ والمصادرة والجدار العنصري والاستيطان، لكي يعلم المحتل ومعه العالم أجمع، أن ما يسمّى “صفقة القرن” المؤامرة لن تمرّ، وأن مصيرها الإخفاق الحتمي، إذ أنها فتحت فصلاً جديداً من مقاومة الشعب الفلسطيني ضدّ الاحتلال الصهيوني، تجلت أبهى صوره فيما يحدث الآن في فلسطين من عمل مقاوم وإرساء معادلات جديدة في الردع والمقاومة، وأن التطبيع والاملاءات الأمريكية لن يرضخ لها الشعب الفلسطيني، ومعه الأمة العربية والإسلامية.
يستطيع الاحتلال أن يقضم الأرض مؤقتاً، وأن يُفصِّل القوانين على هواه ويبني المستعمرات، ويملي شروطه على المؤسّسات الدولية، لكنّه لا يستطيع أن يغيّر التاريخ. كما يستطيع أن يفرض منطقه بالقوّة، لكنّه لا يستطيع أن يُلغي وطناً وهويّة وحقوقاً شرعيّة، ولا أن يواجه شعباً مجرد وجوده في أرضه فعل مقاومة. وكلّما نفخ الكيان الصهيوني اصطناعيّاً أسطورة تفوّقه، واستقراره، وازدهاره، ازداد هشاشة وتفكّكاً وشكّاً في قدراته، ومضى نحو نهايته وهزيمته المحتومة. إن “إسرائيل” زائلة حتماً، رغم تقاعس الأنظمة العربية وعجزها وتخلّفها وخياناتها، ورغم حماية الدول الاستعماريّة فيما يُسمّى “العالم الحر والديمقراطي” ورعايتها ودعمها.