“هيومن رايتس ووتش” تصنف جرائم “إسرائيل” بـ”الفصل العنصري” و”الاضطهاد”
سمر سامي السمارة
يعكس تصنيف “هيومن رايتس ووتش” جرائم “إسرائيل” تجاه الفلسطينيين الأخيرة، باعتبارها جرائم فصل عنصري واضطهاد، المكاسب التي حققتها الحركة العالمية للحقوق الفلسطينية في تحويل الخطاب العام فيما يتعلق بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي. تعتبر “هيومن رايتس ووتش” المنظمة الأكثر شهرة وتأثيراً في نخبة واشنطن، وإن إصدارها تقريراً قانونياً، من أكثر من 200 صفحة، يخلص إلى أن “إسرائيل” ترتكب جريمتي الفصل العنصري والاضطهاد ضد الفلسطينيين، يأتي بمثابة صفعة كبيرة للكيان الصهيوني.
تستند النتائج الرئيسية للتقرير إلى سياسة “إسرائيل” للإبقاء على هيمنة الإسرائيليين اليهود على الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، بما في ذلك القدس الشرقية، والتي تترافق مع القمع المنهجي والأعمال غير الإنسانية، وهي انتهاكات ترقى إلى جريمة الفصل العنصري.
و”هيومن رايتس ووتش” ليست المنظمة الأولى التي تعتبر القمع الإسرائيلي للفلسطينيين، ومصادرة حقوقهم، انتهاكاً للعهد الدولي لمناهضة جريمة الفصل العنصري، وإن كان تقريرها هو الأكثر وضوحاً وقوة في استنتاجاته، فمنظمة “بتسيلم”، التي تجنّبت لسنوات عديدة وصف الانتهاكات الإسرائيلية بـ”الفصل العنصري”، أصدرت تقريرها الخاص في كانون الثاني بعنوان “نظام السيادة اليهودية من النهر إلى البحر هو جريمة فصل عنصري”.
ولابد من الإشارة إلى أن الأمثلة والموجزات السرية التي تستشهد بها “هيومن رايتس ووتش” بشكل كبير، تعكس العمل الذي قام به دعاة حقوق الإنسان في فلسطين وجنوب أفريقيا، على مدى العقدين الماضيين أو أكثر، إذ كُتبت مقالات وكتب، وحُشدت منظمات حقوقية فلسطينية، وعُقدت مؤتمرات للأمم المتحدة، وتعالت أصوات أعضاء في الكونغرس الأمريكي وأكاديميين فلسطينيين يتمتعون بتأثير قوي، إضافة إلى زعماء دينيين، من كبير أساقفة جنوب أفريقيا، ديزموند توتو، إلى الرئيس المشارك لحملة الفقراء، القس ويليام باربر الثاني، لإدانة جريمة الفصل العنصري الإسرائيلي.
هدف التعميم
بذل النشطاء والمهتمون بحقوق الإنسان وغيرهم، جهداً كبيراً لتعزيز الاعتراف بأن الإجراءات التي تمارسها السلطات الإسرائيلية تعادل جريمة فصل عنصري، وذلك للوصول إلى تعميم هذا المنظور، فعندما قال الأسقف ديزموند توتو إن “إسرائيل خلقت واقع الفصل العنصري داخل حدودها ومن خلال احتلالها”، كان لا يزال من السهل، على المسؤولين الأمريكيين وأعضاء الكونغرس والإعلاميين في مراكز القوة تجاهل بيانه.
وعندما بدأ الأكاديميون الفلسطينيون وغيرهم باستخدام هذا التعريف بشكل روتيني لوصف السياسات الإسرائيلية، كان لاستخدامهم أثر كبير ولكنه لم يكن كافياً، إلا أن استخدام المزيد من المثقفين الأمريكيين من أصل أفريقي، وغيرهم من المفكرين التقدميين، ومسؤولي الأمم المتحدة للمصطلح، أصبح من الصعب تجاهله، ومنذ أن تحدثت عضو مجلس النواب في الكونغرس “بيتي ماكولوم” والقس ويليام باربر لتعريف وإدانة الفصل العنصري الإسرائيلي، أصبح التجاهل أكثر صعوبة.
ما جعل السيناتور الأمريكي “بيرني ساندرز” يضمّ صوته، إلى جوقة متزايدة من الشخصيات السياسية في الولايات المتحدة وحول العالم، ممن أعربوا عن قلقهم بشأن العنف الذي تمارسه القوات الإسرائيلية ضد المتظاهرين الفلسطينيين في القدس الشرقية المحتلة والغارات الجوية القاتلة على غزة.
قال ساندرز في رسالة وجهها إلى إدارة بايدن: “مرة أخرى نرى كيف يمكن للأعمال غير المسؤولة للمتطرفين اليمينيين المتحالفين مع الحكومة في القدس أن تتصاعد بسرعة إلى حرب مدمرة”. وأضاف: “على الولايات المتحدة أن تدعو إلى إنهاء النشاط الاستيطاني الاستفزازي وغير القانوني”. وتابع: “لا ينبغي أن ينشأ الأطفال الفلسطينيون في ظل العنف والقمع المستمر للاحتلال، كما فعل الكثيرون”.
كما غردت عضو الكونغرس إلهان عمرو عبر “تويتر”: “الغارات الجوية الإسرائيلية التي تقتل المدنيين في غزة هي عمل إرهابي”، و”الفلسطينيون يستحقون الحماية”، وأضافت: “إن برامج (..) مثل القبة الحديدية غير موجودة لحماية المدنيين الفلسطينيين”.
وبدورها حثّت النائب راميلا جايابال إدارة بايدن للضغط على “إسرائيل”، ورفض جميع أشكال الضم الإسرائيلي، وخطط إخلاء الفلسطينيين في الشيخ جراح وطالبت الكونغرس أن يشترط مع المساعدة العسكرية التزام السلطات الإسرائيلية بالقانون الدولي.
وقال النائب الديمقراطي راؤول جريجالفا: “لا يمكننا تجاهل العنف المستمر في القدس وخارجها، حيث تستخدم السلطات الإسرائيلية القوة المفرطة لقمع المصلين”، وأضاف: “علينا إجراء محادثات جادة حول أموال دافعي الضرائب الأمريكيين التي تموّل مثل هذه الأفعال”.
كما ذهب بعض دعاة السلام أبعد من ذلك، ففي رسالة عبر البريد الإلكتروني قالت مجموعة “كودبنك” المناهضة للحرب ومقرها الولايات المتحدة إن “ما يحدث في فلسطين محزنٌ للغاية، لذا نزل الناس في جميع أنحاء العالم إلى الشوارع للمطالبة بحل عادل ودائم لإنهاء جريمة الفصل العنصري الإسرائيلي، وخاصة مع مرور 73 عاماً على تهجير مئات الآلاف من الفلسطينيين بالقوة من منازلهم لإفساح المجال للمشروع الصهيوني، لذا علينا أن نتضامن بصوت عالٍ مع الفلسطينيين، حتى لا تفقد أسرة أخرى منزلها أو أحبائها في الهجمات الإسرائيلية”.
كما انتقدت المجموعة المساعدات العسكرية الأمريكية لـ”إسرائيل” ودعمت العريضة التي تدعو بايدن ووزير الخارجية بلينكين لـ”وقف تمويل اسرائيل في ارتكابها جريمتي الفصل العنصري والعنف”.
وفي بيان، قالت السكرتير الصحفي للبيت الأبيض جين بساكي إن “إخلاء العائلات الفلسطينية التي عاشت لسنوات وأحياناً لعقود في منازلها، وهدم هذه المنازل، لا يخدم مصالحنا المشتركة نحو تحقيق حلّ للنزاع”.
لذلك عندما تقول “هيومن رايتس ووتش” إن إسرائيل مذنبة بارتكاب جريمتي الفصل العنصري والاضطهاد، فهي لا تعكس فقط تحولاً في الخطاب، بل ما هو أبعد من ذلك، إذ أن كلمة فصل عنصري مشحونة جداً، وقوية جداً، ولابد أن الحراك الذي يقوده الفلسطينيون للاعتراف بحقوقهم قد ساعد بشكل كبير في تغيير هذا الخطاب. وسواء اعترفت المنظمة بذلك أم لا، فلا شك أن جزءاً كبيراً من قرارها بإصدار التقرير، الآن، يستند إلى حقيقة أن عدم الاعتراف بالفصل العنصري يعني انتحارها سياسياً وفقدانها مصداقيتها بشأن حقوق الإنسان.
ومن الواضح أن إصدار التقرير لم يكن أمراً سهلاً من قبل، ولن يكون سهلاً الآن، ولم يتفاجأ أحد برد السكرتيرة بساكي عندما نوهت بأن التقرير لا يعكس “وجهة نظر هذه الإدارة”. لكن التقرير سيعزّز العمل لتغيير السياسة الأمريكية، وكسب دعم قانون الأطفال والأسر الفلسطينية في الكونغرس، والمضي قدماً في تكييف المساعدات العسكرية التي تخدم سياسات “إسرائيل” العدوانية، وحشد حملات مقاطعة الشركات التي تدعم “إسرائيل” في ارتكاب جريمة الفصل العنصري.
أكثر من الفصل العنصري
في تقريرها، اعترفت “هيومن رايتس ووتش” بـ”النية التمييزية للسلطات الإسرائيلية في الإبقاء على الهيمنة الممنهجة لليهود الإسرائيليين على الفلسطينيين” في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ومضت أبعد ذلك لتتهم “إسرائيل” بممارسة الاضطهاد، وهو جريمة ضد الإنسانية وفقاً لنظام روما الأساسي المنشئ للمحكمة الجنائية الدولية.
كُرّسَ الجزء الأكبر من التقرير للتعمق في حجم ونطاق الانتهاكات الإسرائيلية لحقوق الفلسطينيين، وقصص الفلسطينيين الذين مُزقت عوائلهم، ومجتمعات السكان الأصليين الذين انتُزعت أراضيهم وحقوقهم ومنازلهم وتمّ إخضاعهم وعزلهم، كما تضمن التقرير قوانين “إسرائيل” وتصريحات كبار المسؤولين الإسرائيليين التي توضح أن الهدف الرامي إلى إبقاء الهيمنة الإسرائيلية اليهودية على التركيبة السكانية، والسلطة السياسية، والأرض، هو ما يوجّه سياسة الحكومة منذ زمن طويل.
كما قدّم التقرير نقداً لقائمة طويلة من انتهاكات الحقوق الفلسطينية، بما في ذلك تسهيل نقل اليهود الإسرائيليين إلى الأراضي المحتلة، ومنحهم مكانة أعلى من حيث الحقوق المدنية، والوصول إلى الأرض، وحرية التنقل والبناء. وحق اللاجئين في العودة إلى وطنهم كعنصر لا ينفصم من جرائم “إسرائيل” ضد الإنسانية؛ والجديد بالنسبة للمنظمة، التي تأسّست منذ 43 عاماً، أنها سلطت الضوء على الانتهاكات ذات الصلة بالتشتيت “القسري” للشعب الفلسطيني، وعلى أولئك الذين يرزحون تحت الاحتلال العسكري، وأولئك الذين يعيشون كمواطنين من الدرجة الثانية أو الثالثة داخل الأراضي المحتلة، وملايين اللاجئين في المخيمات في جميع أنحاء المنطقة، والمنتشرين في شتى بقاع الأرض.
وتميّزت توصيات التقرير بالشمولية، إذ طالبت السلطات الإسرائيلية بإنهاء السياسات والممارسات التمييزية في مجالات مثل المواطنة وعمليات منح الجنسية، وحماية الحقوق المدنية، وحرية التنقل، وتخصيص الأراضي والموارد، والحصول على المياه والكهرباء، وغيرها من الخدمات، ومنح تصاريح البناء. كما حثّت على إعطاء الفلسطينيين الحقوق التي حرموا منها منذ فترة طويلة، مثل إلغاء قانون “القومية” الذي أقرته “إسرائيل” عام 2018، ويمنح اليهود فقط حق تقرير المصير في فلسطين.
وطالبت المنظمة “إسرائيل” بـ”الاعتراف بحق الفلسطينيين، الذين هربوا أو طُردوا من منازلهم عام 1948، وأحفادهم، بدخول الأراضي المحتلة والإقامة في المناطق التي كانوا يعيشون فيها، أو عائلاتهم من قبل”. كما طالبت المحكمة الجنائية الدولية بالتحقيق مع الأفراد المتورطين بجرائم الفصل العنصري والاضطهاد ومحاكمتهم، والأمم المتحدة بالتحقيق في التمييز المنهجي والقمع على أساس الهوية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، إضافة إلى تعيين مبعوث عالمي وتفويضه بـ”الدعوة لإنهاء هاتين الجريمتين وتحديد الخطوات التي ينبغي على الدول والمؤسّسات القضائية اتخاذها للملاحقة بشأن جرائم الفصل العنصري”.
كما دعت كافة الحكومات إلى فرض عقوبات “بما في ذلك حظر السفر وتجميد الأصول” ضد المسؤولين عن جرائم إسرائيل ضد الإنسانية، وفرض شروط على مبيعات الأسلحة والدعم العسكري لـ”إسرائيل” لاتخاذ خطوات لإنهاء جرائمها، وطالبت الحكومات بتوجيه تهم ضد المسؤولين الإسرائيليين استناداً إلى الولاية القضائية العالمية.
وفي خطوة من شأنها تعزيز حركة المقاطعة العالمية، حثت المنظمة الشركات لـ”وقف الأنشطة التجارية التي تساهم بشكل مباشر” في الجرائم الإسرائيلية، وذلك في إشارة واضحة إلى شركات مثل شركة كاتربلر التي تتخذ من الولايات المتحدة مقراً لها، والتي تمثل منذ وقت طويل هدفاً لحملات المقاطعة، لأن جرافاتها من طراز D-9 تُستخدم بشكل روتيني لهذا الغرض على وجه التحديد، وقد حدّدت “المعدات المستخدمة في الهدم غير القانوني للمنازل الفلسطينية” على أنها مثال على الأنشطة التي تساهم بشكل مباشر في الفصل العنصري والاضطهاد.
وفي الجزء الأكثر أهمية من التقرير، حدّدت المنظمة قائمة طويلة من الإجراءات التي ينبغي على الإدارة الأمريكية اتخاذها، كما دعت البيت الأبيض والكونغرس لربط المبيعات والمساعدات العسكرية والأمنية لـ”إسرائيل” باتخاذ “خطوات ملموسة وقابلة للتحقق من أجل إنهاء ارتكابها لجرائم الفصل العنصري والاضطهاد”، إضافة إلى تطبيق القوانين الأمريكية الحالية التي تقيّد المساعدة العسكرية لمنتهكي حقوق الإنسان، وهي القوانين التي أعفى الكونغرس والرؤساء “إسرائيل” منها منذ فترة طويلة.
عنونت “هيومن رايتس ووتش” تقريرها “تجاوزوا الحد.. السلطات الإسرائيلية وجريمتا الفصل العنصري والاضطهاد”، في إشارة منها إلى أن سياسات “إسرائيل” تجاوزت خطر “التحول” إلى الفصل العنصري، لأنها تجاوزت هذه المرحلة، ولم يعد ممكناً اعتبار احتلال عام 1967 مؤقتاً، فالحدّ الآخر الذي تجاوزته هو الاعتراف بأن التاريخ قد تقدم إلى الأمام.
لقد تغيّر الخطاب، وباتت مصداقية المنظمة تعتمد على الاعتراف الجديد الذي يعرفه الكثيرون منذ سنوات، بمن فيهم موظفو “هيومن رايتس ووتش”. فالمنظمة نفسها تجاوزت الحدّ الآن، والحركة من أجل الحقوق الفلسطينية هي التي جعلت هذا العبور ضرورياً، وليس ممكناً فحسب.
لقد تغيّر الخطاب بالفعل، وتدرك “هيومن رايتس ووتش” اليوم الحاجة إلى التحرك مع التاريخ والاعتراف علناً بالفصل العنصري على ما هو عليه.