غاليري مصطفى علي تحيّي بسام جبيلي.. عاش هاوياً ومجرّباً ومكتشفاً
لم يكن اسم الفنان بسام جبيلي بارزاً في الحركة التشكيلية السورية على الرغم من امتلاكه خصوصية فنية تميّزه عن غيره من المشتغلين في التصوير، إلا أن رحيله سلَّط الضوء على مسيرته التشكيلية الغنيّة التي مارس خلالها فنَّ النحت أيضاً الذي ظلَّ يشكّل له ساحة رحبة للتجريب، ويجمِعُ كلُّ من شارك في الندوة النقدية التي أقامها غاليري مصطفى علي مؤخراً إحياءً لذكراه بمشاركة منذر المصري وأكسم طلاع وغازي عانا على أنه ورغم المسيرة الطويلة له بقي هاوياً ومجرّباً ومكتشفاً لفضاءات أكثر رحابة ونوافذ مشرعة على الجمال والحب والسلام الداخلي، في حين أكد مصطفى علي أنه سبق وأن حاول دعوة الراحل لإقامة معرض له إلا أنه رفض ذلك، وهذا ليس بغريب عنه وقد اختار العمل بصمت وهدوء.
كان صديقاً للجميع
وآثر الفنان منذر المصري الذي تغيَّب عن حضور الندوة وحضر بما خطّه قلمُه من كلمات قرأتْها سوزان محمود أن تكون مساهمته الكتابية في هذا الاحتفاء الفني بصديقه بسام جبيلي أقرب إلى الاستعادة الشخصية لما كتب عنه في دفاتر مذكراته، مشيراً إلى أنه عرف الراحل منذ سنة 1967 أول سني دراسته الجامعية في حلب، وإلى حين رحيله عام 2020 وقد تخلّلت هذه الأعوام فترات انقطاع طويلة ومتكررة لتشبث جبيلي بالبقاء في حمص التي لم يخرج منها إلا نادراً، مشيراً إلى أن جبيلي عاش صديقاً للجميع، وقد كان وحيد والديه وصار بعد رحيلهما وحيداً في كل شيء، مكتفياً بذاته التي كرّسها للفن، حيث لا أبناء ولا زوجة، فعاش خمسة وسبعين عاماً كطفل، وحين يعود المصري بذاكرته إلى أيام الدراسة الجامعية التي جمعته بجبيلي في كلية العلوم الاقتصادية في جامعة حلب يستحضر كيف كان جبيلي يرسم على ألحان وإيقاعات الموسيقا الكلاسيكية التي يستمع إليها، وقد استطاعا إقامة معرض لهما في الجامعة عام 1971 وحينها وردّاً على سؤال الصحافية هنريت عبودي يومها كيف يشعر وهو يرسم أجابها: “كمن يضربني أحد بمطرقة على رأسي، فلا أستيقظ إلا عندما تنتهي اللوحة”، منوهاً بأن جبيلي على الرغم من أنه رسّام خط إلا أنه كان يرفض التعميم، حيث كان يرى أن الخطوط وانحناءاتها وليونتها قد تحصر الألوان وتحدّدها.
تشريحات خاصة
ولأن الرسم حالة رائعة كما وصفها جبيلي، كان متنفساً له برأي الفنان والناقد أكسم طلاع الذي بيَّن أن جبيلي كان شخصاً لطيفاً يعيش سلامه الداخلي إلى حدّ الحيادية بعيداً عن المشاكسة، فعُرِف أنه يعيش الفن منذ طفولته، فهو ينتمي إلى بيئة فنية جعلته يتلمّس الفن، فتميّزت لوحته بالقوة من ناحية الخط، ولم تنجُ من النحت الذي يمارسه ولا من الموسيقا التي عُرِف بتذوقه الكبير لها، فحركة لوحته وإيقاعها وبنيتها وحساسيتها تشي بأن الفنان كان يستمع إليها جيداً، وربما كان يرى بأذنه لذائقته الموسيقية العالية التي كان يتمتّع بها، وهذا يؤكد برأي طلاع تلك العلاقة الكبيرة التي تربط عائلة الفنون ببعضها، إلى جانب أن جبيلي كرسّام لم يكن يعتني برسم الواقع، بل كان يذهب نحو خلق صورة تفرض نفسها عليه، إلى جانب أن حالة الرسم لديه كانت موشّاة بالأرابيسك من حيث تداعي الجزء مع الجزء الآخر، ومزجه بين شخصية الرسام والنحات جعله يمتلك تشريحات خاصة به لا تشبه أحداً، مؤكداً أن جبيلي عاش للفن وكان يرسمُ ليُرضي نفسه أولاً.
مصوّر واقعي
وبيَّن الفنان والناقد غازي عانا في مشاركته أن الراحل كان يفهم الفن بأنه الهاجس الجمالي الشخصي الخاص بالفنان وهو العشق الذي يسكن العقل والقلب، موضحاً أن جبيلي تعلّمه ذاتياً وبدأ باكتسابه من البيت الذي تواجدت فيه الألوان دائماً، وكانت تأتي بها والدته من لبنان لتمارس هوايتها في الرسم مع خالتها التي كانت تجيده، ومن ثم تابع هوايته من خلال دورات متتابعة في مركز الفنون التشكيلية في حمص مستفيداً من أجواء المدينة في تلك الفترة التي كانت فيها الفنون منتعشة بفضل وجود مصورين كبار أمثال: صبحي شعيب، أحمد درّاق السباعي، مصطفى بستنجي، وغيرهم من الذين أسسوا لنواة حركة تشكيلية ناشطة ما زال حضورها مؤثراً إلى اليوم، مؤكداً أن جبيلي وإن كان مصوّراً واقعياً كسولاً لم يُنجز إلا عدداً محدوداً جداً من المَعارض، إلا أنه يبقى واحداً من مجموعة فناني حمص المجتهدين والمميزين، مبيناً أن الراحل اهتمّ مؤخراً بالرسم على الحاسب “كمبيوغرافيك” و”فيديو تحريك”، حيث كان ينجز من خلال برامج خاصة تصميم مربعات لا نهائية من الدهشة، منوهاً بأن ولوج جبيلي عالماً افتراضياً من الإبداع وضعه أمام خيارات بدت للوهلة الأولى مستحيلة، خاصة وأنه وباعترافه لم يتبادر إلى ذهنه في أي يوم الغوص في عوالم التجريد المعقدة رغم عشقه لها كمشاهد، ولكنه وبعد سنوات من التجريب والاكتشاف استطاعَ أن يكوّن لذاته رؤية خاصة بهذا الفن المنتمي إلى أشكال فنون ما بعد الحداثة كزمن، وإلى فضاء بصري افتراضي بالغ التأثير، مؤكداً أن جبيلي النحات اهتمّ بصياغة أعماله النحتية بالفهم التشكيلي نفسه وإن اختلفت في حضورها من حيث طريقة التعبير، إلا أن هذا الفن برأيه بقي عنده خجولاً ولكنه كان دائماً متضمناً كل مقومات الجدية وبمعادلة مقنعة وصحيحة تشكيلياً، معتمدة غالباً على تبسيط الشكل الذي كان أساسه الإنسان بحالاته المختلفة، مُركزاً على روحانيته وهو لا يبتعد في ذلك برأي عانا عن فضاءات اللوحة وموضوعها.
يُذكر أن الندوة التي خُتمت بعرض وثائق تلفزيونية تسلّط الضوء على مسيرة جبيلي وبعض المقابلات التي أجريت معه، كانت ضمن فعالية تشكيلية أقامها الغاليري تحية لروح جبيلي وبدأت بافتتاح معرض تحية لروحه بمشاركة مجموعة من الفنانين إلى جانب بعض أعماله.
أمينة عباس