مسرحية الطائرة “رايان إير” تتجاوز حدود الآداب
طلال ياسر الزعبي
شيئاً فشيئاً بدأت تتكشف الأسباب الحقيقية الكامنة وراء الاتهامات الغربية لكل من موسكو ومينسك بأحداث الطائرة الإيرلندية “رايان إير”، حيث أكد الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو أن موضوع الهبوط الاضطراري كان مدبّراً من جهات غربية، وأوضح أن التقدير المنطقي للخطر الذي تعرّضت له الطائرة كان يشير إلى ضرورة هبوطها في أيّ من المدن الأوروبية الأربع التي رفضت استقبالها وهي فيلنيوس، حيث كانت متوجّهة، ووارسو، ولفوف وكييف، متسائلاً: لماذا قرّر قائد الطاقم، الهبوط في مينسك، بينما كان هناك نحو 70 كيلومتراً من فيلنيوس؟، وهل كان من الضروري لأحد ما أن تهبط الطائرة في مينسك بالذات؟، ليصل إلى استنتاج أن هبوطها في مينسك كان مخططاً له من الغرب لتنفيذ أجندة يسعى من خلالها لاستهداف بيلاروس ومن ثَم العبور إلى استهداف روسيا في هذه الرواية.
لوكاشينكو أعلن خلال اجتماع عقد في برلمان بلاده، أن قناة متطرّفة في “تلغرام” تمّ تأسيسها أثناء الاحتجاجات في بيلاروس تعمل حالياً ضد روسيا، وهي تظهّر بشكل واضح الهدف الحقيقي للاستراتيجيين الغربيين، وذلك في محاولة للبحث عن نقاط ضعف جديدة يتمّ الولوج من خلالها إلى بيلاروس بوصفها حقل تجارب للغربيين، قبل توجّههم شرقاً إلى روسيا التي هي الهدف الرئيسي من وراء هذه التجربة، مؤكداً أن هذه القناة تعمل من خارج أراضي بلاده.
وواضح من السياق أن الجهات الأوروبية التي رفضت استقبال الطائرة الإيرلندية كانت على علم بوجود المعارض البيلاروسي رومان بروتاسيفيتش الذي يبدو أنه استخدم طعماً لها لاتخاذه فيما بعد ذريعة للقول: إن ما قامت به مينسك هو عمل قرصنة، وخاصة أن وكالة ATN الإعلامية الحكومية البيلاروسية قالت: إن الرسالة التي تحدّثت عن التهديد بحدوث انفجار في طائرة “رايان إير”، جاءت من سويسرا، مكتوبة باللغة الإنكليزية، وذلك لإكساب الخبر نوعاً من الحيادية، على اعتبار أن سويسرا غير منخرطة كثيراً في القضايا السياسية الدولية.
ولكن الرياح لم تجرِ بما تشتهي سفن المؤامرة الغربية، حيث أعلن الخبير في الاستخبارات الروسية أليكسي مارتينوف، أن الاستخبارات البريطانية تقف بالكامل وراء قضية هبوط طائرة “رايان إير” في مطار مينسك قبل أيام. وأضاف: “هذه عملية أمنية خاصة خارجية جادة. ويبدو من طريقة تنفيذها والعلامات الأخرى التي يتمّ نشرها مؤخراً، أنها من تنفيذ الاستخبارات البريطانية”.
ولفت مارتينوف، من وجهة نظر منطقية، الانتباه إلى سخافة مزاعم المسؤولين البريطانيين بأن روسيا كانت على علم بموضوع الهبوط الاضطراري للطائرة حتى قبل حدوثه، لذلك “روسيا هي المسؤولة عن كل شيء، ومن الضروري فرض عقوبات على السيل الشمالي-2″، بمعنى أن القضية بمجملها يُراد من ورائها الوصول إلى فرض عقوبات جديدة على روسيا في موضوع السيل الشمالي بالذات الذي بات يؤرّق لندن ومن ورائها واشنطن. وشدّد الخبير، على أن “حادث هبوط الطائرة تمّ استخدامه ضد بيلاروس، ولكن الهدف النهائي بالطبع هو روسيا”.
وهذا بالضبط ما أشارت إليه المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا عندما أعلنت أن الادّعاءات الغربية بشأن “ضلوع” موسكو في حادثة طائرة “رايان إير” في بيلاروس يوم الأحد الماضي، ليس لها أي أساس من الصحة. وقالت للصحفيين: “لقد لاحظنا أن شركاءنا، والغربيون منهم بشكل أساسي، والقادة ورؤساء الحكومات والمسؤولون ووسائل الإعلام ومعظمهم أيضاً من التيار السائد، يعلّقون على هذا الموقف مفترضين وجود نوع من العلاقة لروسيا به.. وتظهر هناك مزايدات تتحدث عن “يد موسكو” المزعومة في الحادثة”. ووصفت هذه الادعاءات بأنها تتجاوز حدود الآداب وقالت: “قرأت آراء الكثيرين ولم تفاجئني، لكن مع ذلك هناك نوع من الحدود للآداب والأخلاق المهنية”.
وفي وقت سابق قال وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان لقناة “فرانس 2” التلفزيونية: إن “عدم وجود ردّ روسي على حقيقة أن بيلاروس هبطت بطائرة واعتقلت صحفياً معارضاً كان على متنها يأتي بمنزلة تساهل مع هذه الإجراءات”. وأضاف: إن فرنسا وإيرلندا وأستونيا ستثير الحادث في جلسة خاصة لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في وقت لاحق.
إذن، لم يترك الغربيون مجالاً لاستهداف روسيا إلا واستخدموه، فهم يرسلون رسائل بوجود متفجرات على متن طائرة إيرلندية يستقلها معارض بيلاروسي، وترفض مطاراتهم استقبال الطائرة، أو يصرّ الطاقم لغاية في نفسه على الهبوط في مينسك وهي الأبعد، وعندما توافق السلطات البيلاروسية على هبوط هذه الطائرة اضطرارياً في مطارها، وتلقي القبض على المعارض المطلوب لأجهزتها الأمنية بحكم القانون يتهمونها بالقرصنة، للقول فيما بعد إن روسيا تتستّر على تصرّفات بيلاروس غير القانونية، وصولاً إلى الهدف الأسمى الذي يسعى إليه الغرب وهو شيطنة روسيا، والذي تسمّيه روسيا تأدّباً احتواء، وبالتالي تسويغ استهدافها بمزيد من العقوبات ومحاصرتها اقتصادياً، وهذا ما أعلن عنه المسؤولون البريطانيون صراحة، بمعنى أن كل مشكلة تتمّ نسبتها إلى روسيا يجب أن يترتب عليها عقوبات اقتصادية في مكان ما، ويبدو أن “السيل الشمالي 2” يقف الآن في مقدّمة هواجسهم.