29 أيار .. تكريس لخيار المقاومة والشهادة في سبيل الوطن
د.معن منيف سليمان
كرّس أبطال قوى الأمن الداخلي مفهوم الشهادة في سبيل الوطن ومعناها للأجيال والتاريخ، وأنه لا سبيل لصيانة حرية الوطن واستقلاله سوى خيار المقاومة والشهادة، لأن المستعمرين كانوا ولا يزالون لا يعرفون إلا لغة القوة وهي التي يجب أن تجابه بقوة المقاومة التي لن تهدأ أو تستكين إلا بتحرير الأرض والإنسان. وتكريماً لهؤلاء الأبطال الذين استشهدوا على مذبح السيادة الوطنية، وتخليداً لبطولتهم في ذلك اليوم، تقرر أن يعد التاسع والعشرين من أيار من كل عام يوماً لقوى الأمن الداخلي يُحتفل به رسمياً.
ففي يوم التاسع والعشرين من أيار عام 1945، سجّل أبطال قوى الأمن الداخلي صفحة مشرقة في البطولة والشرف والفداء، عندما تصدوا لهمجية العدوان الفرنسي على مبنى البرلمان السوري، فجابهوا جبروت المحتل، وغطرسته بأسلحتهم المتواضعة، وعددهم المحدود، وصدورهم العامرة بحب الوطن وقدسية الواجب، وقدموا دماءهم الزكية في سبيل عزة الوطن وكرامته، فكانت حافزاً كفاحياً جديداً لمزيد من تصعيد المقاومة وخوض معارك التضحية وملاحم الفداء التي كانت ثمرتها اليانعة جلاء المستعمر عن أرض الوطن في السابع عشر من نيسان عام 1946.
بدأت أحداث هذه الملحمة عندما وجه الجنرال الفرنسي “أوليفار روجيه” إنذاراً إلى رئيس المجلس النيابي السوري “سعد اللّه الجابري” يأمره فيه بتقديم التحية للعلم الفرنسي عند إنزاله، في مساء يوم الثلاثاء 29 أيار عام 1945، عن دار أركان الحرب الفرنسية مقابل البرلمان السوري آنذاك، ولكن رئيس المجلس ردّ بالرفض القاطع كون ذلك المطلب يتناقض مع مبدأ السيادة الوطنية، وبعد أن انقضت مهلة الإنذار تحركت القوات الفرنسية بالمصفحات ومختلف الأسلحة المتطورة، وعندما حان موعد أداء التحية للعلم الفرنسي، طلب الفرنسيون من الحامية السورية المؤلفة من ثلاثين عنصراً من رجال قوى الأمن الداخلي التي كانت مكلفة بمهمة حماية المبنى وحراسته، تأدية التحية للعلم الفرنسي، ولكن أفراد الحامية رفضوا جميعاً الانصياع لذلك، كون هذا العلم يمثل رمز المحتل المستعمر لبلادهم، وعلى الفور طفقت القوات الفرنسية المحتلة بصبّ جام حقدها من فوهات بنادقها الرشاشة وحمم مدافعها التي دكّت المبنى فتداعى على من فيه.
وعلى الرغم من قلة أفراد حامية البرلمان وتواضع أسلحتهم وإمكانياتهم، إلا أنهم استبسلوا جميعاً وخاضوا معركة غير متكافئة، واستقبلت صدورهم العامرة بحب الوطن والإخلاص للواجب الوطني رصاص الغدر والعدوان الغاشم. وبعد قصف وحشي وتدمير أجزاء كبيرة من مبنى البرلمان، قامت القوات الفرنسية باقتحامه، وولجت إلى القاعة الرئيسة للبرلمان، وفتحت النيران على من تبقى من أفراد الحامية بصورة همجية، وكان هؤلاء الأبطال الميامين قد صمدوا حتى نفدت ذخائرهم، وعلى الرغم من ذلك لم تراودهم فكرة الاستسلام أبداً، فقد آمنوا أن الموت في سبيل الوطن وكرامته خير من الحياة مع الذل والخنوع والاستسلام لإرادة المستعمر، وهكذا حصدت المجزرة ثمانية وعشرين شهيداً، وكُتبت الحياة لبطلين نجيا بأعجوبة بعد أن أثخنتهما الجراح ليرويا للأجيال المجزرة المروعة.
كان هدف الفرنسيين هو القضاء على الوزراء والنواب السوريين الوطنيين واعتقال أنصار الحكومة، ثم تعيين حاكم عسكري للبلاد، وكان لابدّ من ذريعة لتنفيذ هذه الجريمة البشعة التي خُطط لها مسبقاً في قيادة أركان الجيش الاستعماري الفرنسي، المتضمنة قصف مبنى البرلمان السوري بالقنابل خلال انعقاد جلسة النواب التي كانت مقررة في اليوم نفسه، وقتلهم جميعاً، ولكن رئيس المجلس ألغى الجلسة المقررة حفاظاً على حياة النواب لمعرفته الأكيدة بما كان يبيّت له المستعمرون.
وكانت قيادة القوات الفرنسية قد أصدرت بلاغاً سرياً لعناصرها، يحمل الرقم 24 تاريخ 22 أيار عام 1945، حددت فيه مهام القوات الفرنسية في قمع الحركة الوطنية التي كانت تطالب بجلاء المحتل عن أرض الوطن وتحقيق الاستقلال التام، ولعل أبرز ما جاء في هذا البلاغ الآتي:
- إبادة “جميع عناصر الشغب” (العناصر الوطنية) التي تطالب بإجلاء الفرنسيين من سورية.
- احتلال جميع دوائر الحكومة ومؤسساتها ومنشآتها كافة.
- منع الحكومة السورية من الاتصال مع الخارج.
- تجريد الشعب السوري من السلاح وكافة الأدوات الحادة خلال أربع وعشرين ساعة.
- إدارة البلاد من قبل حاكم عسكري وإعلان الأحكام العرفية.
وقبيل ارتكاب المجزرة قامت قيادة القوات الفرنسية بتوزيع بيان سرّي آخر على عناصر الجيش، حددت فيه مرابض العربات المدرعة ومتاريس الأسلحة الأخرى، والمهام التي يجب أن تنفذها عناصر الجيش فور صدور الأوامر والتعليمات.
وفي الوقت الذي جرى فيه قصف مبنى البرلمان وقتل حاميته، قامت الطائرات والمدافع الفرنسية بقصف وحشي لمدينة دمشق، وامتدت أعمال القصف العشوائية لتشمل فيما بعد بقية المدن السورية في إطار تنفيذ خطة استعمارية هدفت إلى إخضاع الشعب السوري وإرغامه على الاستجابة لإرادة المستعمر بالبقاء في سورية كمحتل لها، ولكن هذه الأساليب الوحشية لم تثن عزيمة أبناء سورية الأباة وإرادتهم بالتحرر والاستقلال، حيث هبّ الشعب السوري بجميع فئاته لمقاومة الاحتلال، مظهراً تلاحمه من خلال معارك الكفاح البطولي، وفوّت على الفرنسيين أحلامهم الاستعمارية بالبقاء في سورية، حيث تلاشت أخيراً مع جلاء آخر جندي مستعمر عن أرض الوطن في صبيحة السابع عشر من نيسان عام 1946.
لقد وقف أبطال حامية البرلمان بشجاعة نادرة في وجه آلة القتل والتدمير الفرنسية ورفضوا الانصياع إلى أوامر قيادة الجيش المحتل، حيث قالوا كلمتهم: إن الحياة تهون وترخص في سبيل الكرامة، فهؤلاء الأبطال الذين رفضوا أداء التحية لعلم المستعمر، كانوا يرفضون الخضوع والذّل والاستسلام فكانت دماؤهم الزكية التعبير الأعمق عن قدسية الوطن ومعاني الوطنية، لتضاف إلى سجل التضحيات التي سجلها شعبنا العربي السوري لنيل الحرية والاستقلال.
ونحن عندما نعيش زمن الشهادة التي تجسدت واقعاً ملموساً في قوافل الشهداء في سورية، ندرك إلى أي مدى أصبحت سلاحاً يخشاه أعداء الأمة. إن مُثل وقيم النضال يمكن أن تجد تعبيراتها ليس في ساحات القتال وحسب، بل في جميع الساحات، فالمقاومة أصبحت ثقافة تعبّر عن التمسك بالكرامة والحقوق، مهما بدت المعركة غير متكافئة، وهذا ما أكده شهداء التاسع والعشرين من أيار، قولاً وفعلاً.