“مختارات من شعر جكر خوين”…قصائد للجمال والانسان
تعد عملية الترجمة لمنتج ثقافي عبوراً صعباً ومحفوفاً بضياع الأفكار والرؤى نظراً لاختلاف البيئة الاجتماعية والزمان والمكان، والأهم اختلاف لغات التعبير؛ ويبدو الأمر أكثر جدلية بحالة الترجمة الشعرية، إذ يتعدى الأمر الترجمة الحرفية والنقل المتقن للقصائد، هي تراكم ثقافي وتنوع لغوي وحالات تتطلب مهارة لدى من تجرأ على فعل ترجمة الشعر، عليه تقع مسؤولية نقل تاريخ وموسيقا داخلية يتنقل بينها بحذر الكسر، لكن لمتعة نقلها إلى شعوب مغايرة لذة الخلق الجديد لمنتج يحمل قيماً وجماليات لمعرفة جديدة وبقوالب غير نمطية نظراً لانتقالها عبر اللغة إلى متلق ينظر ويقرأ بعين ومشاعر حديثة العهد.
هنا لابد من الخيانة، إذ تحدث بإغواء الفعل الثقافي العاكس للترجمة والذي يعج بتراكم اجتماعي وفني وخلفيات تحكمها وتؤطرها بيئات أخرى، وكما يقول المفكر الروسي رومان جاكوبسون وهو أحد أهم اللغويين في القرن العشرين «الترجمة الوحيدة الممكنة هي النقل الإبداعي الخلاق، أي إعادة كتابة القصيدة وإنتاجها من جديد…».
وربما بكل الصعوبات المذكورة نجد أن الترجمة الشعرية مازالت هي الأقل حظاً وفعلاً بين الترجمات الروائية والنقدية والمسرحية والفلسفية، بالرغم من قيمة الشعر كحامل للثقافة والوعي والمراحل الإنسانية للشعوب كافة، وهنا يحضر قول شاعر روسيا العظيم بوشكين حين أبدى رأيه بالترجمات «المترجمون هم خيول بريد التنوير».
مؤخراً أطلقت الهيئة السورية للكتاب مشروعاً مهماً عنوانه المشروع الوطني للترجمة والذي رفد الحركة الثقافية السورية بكتب وإنتاجات أدبية مهمة ومتنوعة ففي بداية العام أعلنت عن خطتها لترجمة سبعة وستن كتاباً بلغات منوعة منها اليابانية والصينية والكورية والروسية والفرنسية والإنكليزية والألمانية والفارسية والتركية والأرمنية والتشيكية. إنها خطوة تستحق التقدير بنقل التنوع والجديد للمكتبات العربية بمشروع سوري يستهدف كل الفنون وكل الأعمار بوقت تزامن مع حاجة الساحة الثقافية السورية إلى نتاج حقيقي يعيد صياغة هوية سورية عانت ومازالت من استهداف كبير ومدروس هدفه تسطيح القضايا الكبرى ومحو حقيقة الصراعات الإنسانية الدائرة لإلغاء صوت العقل والفكر واستبداله بتفاهات الميديا المأجورة.
ضمن هذا المشروع صدر كتاب “مختارات للشاعر جكر خوين” للمترجم والصحفي إدريس مراد، مترجماً من اللغة الكردية إلى اللغة العربية، تضمن الكتاب نبذة عن حياة جكر خوين وستة وعشرين قصيدة تنوعت بين الرومانسية والواقعية وقصائد تقدمية ضد الظلم والجهل والعادات البالية، كما كتب عن أبناء جلدته وساند بشعره الفقراء والمرأة والعلم وخلق أوطاناً سعيدة، كما حارب سلطة الإقطاع ومن يتسترون بالدين ليستغلوا الإنسان، وفضح حقيقة حلف الناتو وأمريكا منذ بداية تأسيسه أواخر الأربعينيات، فأنشد لنضال الشعوب بمواجهة المستعمرين وتغنى بثورة فيتنام وبالمقاومة الفلسطينية. وكتب جكر خوين لكل أحرار العالم وفضح السلطات التي تستعبد الشعوب وتغرقهم بالجهل وتكرس العادات المتخلفة لتستمد منها ضعف الناس وقوتها.
القصائد المترجمة رقيقة وعذبة تنتصر للإنسان الرازح تحت ظلام الفقر والتهميش والاحتلال والحب القاسي، يشعر القارئ بأن القصائد تمثل كل زمان ومكان فبرغم بساطة لغتها إلا أنها تشي بتراكم ثقافي وأفكار خلاقة سبقت زمانه كونها كتبت بين أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي وكأن قدر الشاعر هو التنبؤ والقراءة البعيدة للمستقبل، كقصيدة اتفاقية حلف الأطلسي “الناتو” والتي كتبها عقب الإعلان عن تأسيسه عام 1949:
“الحلف الأطلسي… الحلف الفارغ/لا يعمل لأجل أحد/لا يفيد أحد/في اليوم الذي يحقق هذا الحلف
سيرفع فاشست الألمان رؤوسهم/انصتوا جيداً/إنها الحرب من جديد/حيث يبتلعون البشر/البساتين والحدائق
القصور والسرايا/ستدمر كلها وتصبح ركاماً/يموت الأطفال بين الأقدام/والفتيات الجميلات يصبحن عاجزات”.
وعن الاضطهاد العنصري كتب قصيدة رائعة المشاعر للمغني الأمريكي بول روبسون الذي عانى من اضطهاد أمريكي بسبب لون بشرته السوداء ذات الأصول الأفريقية فتحول بنضاله إلى أيقونة إنسانية ونال عدة جوائز عالمية لمساندته السود في أمريكا لنيل حقوقهم وإلغاء عبوديتهم، يقول جكر خوين بقصيدة بول روبسون:
“أيا روبسون/هذه الدنيا جميلة/تكفي الجميع السود والبيض/لابد أن تمر بسعادة/بالغنى وبالرأس الشامخ/الكل معاً وبالحسن والمحبة/لا يموت الجائع ولا اليتيم/لا قتل ولا حرب ولا صراخ/ نسير معاً إلى العمل والنضال/مئتان اربعمئة ثمانمئة/بهي هذا النضال/من أجل الإنسان والوطن/ليتوافر كساؤنا وأكلنا/والبيت والنور والدراسة/أصدقاء وأحباب نكون”.
وفي لقاء المحبوبة ينقل لنا مشاعر وجدانية تختلط بالحرية وحب الوطن والتغني بالسلام، وعادة ترقى هذه الأشعار المحملة بالهم الإنساني والبعد المعرفي لتترجم بكامل قوتها ورقتها وتفاعلها العميق إلى جميع اللغات فالهم الإنساني واحد منذ بدأ الإنسان يستخدم المعرفة والكتابة كوسيلة تواصل تهدف لعبور حاجز اللغة طالما المشاعر استطاعت التوحد بآلام كبرى في عالم واحد، يقول في قصيدة ربيع القلب:
“كل الأيام بقربك عيد/امنحيني بقربك الأعياد والعافية/لست همجياً أنا إنساناً/أنا جكر خوين/في الصفوف شاعر مثل سيابوش/وفي سماء بلادي نجمة”.
جكر خوين شاعر كردي سوري درس الفقه الإسلامي وعمل شيخاً ثم اتجه إلى كتابة الشعر حيث أصدر ثمانية دواوين والعديد من الكتب والأبحاث، والقصائد المترجمة عنه في هذا الكتاب تم اختيارها من جميع نتاجه الشعري وتعود لمنتصف القرن الماضي وكانت بلغتها الأم موزونة لكنها تحولت لقصائد نثرية بفعل الترجمة، كما كتب في النقد والثقافة وجمع القاموس الكردي في كتاب، تنقل بين سورية ولبنان والعراق والسويد حيث توفي هناك ودفن في منزله بمدينة القامشلي السورية بجنازة مهيبة تليق بإرثه الثقافي.
يقول المترجم إدريس مراد:«تعد الترجمة التي نحن بصددها أول ترجمة لأشعار جكر خوين في سورية، وقد تمت برعاية وزارة الثقافة، وكانت دراستي في قسم اللغة الكردية المستحدث في معهد اللغات بجامعة دمشق أحد أهم العوامل المؤثرة والمشجعة لقيامي بهذه الخطوة عبر ترجمة قصائد لشاعر يعد رمزاً كبيراً للشعراء الكرد في العالم وليس في سورية وحسب». وصرح بأن الكتاب قد أخذ منه جهد عامين من الاختيارات والترجمة والعمل لنقله للمكتبة العربية بشكل لائق منطلقاً من إيمانه بأن المعرفة تبدأ من معرفة الفرد بثقافته كون الأعمال المترجمة تعود لشاعر سوري، معبراً عن شكره لوزارة الثقافة السورية التي دعمته بجهود أثمرت عن صدور كتابه.
وعن مستقبل الترجمة أكد بأنه يشعر بالتفاؤل لوجود كادر متعاون وخلاق وهم أصلاً من الرعيل الأول للمترجمين في سورية مما يخلق تفاهماً وتقديراً لأي جهد مبذول كونهم أصحاب تجارب في ذات المضمار.
والمترجم صحفي سوري صدر له كتاب “الكلمة والنغم” من إصدارات جمعية صدى الثقافية الموسيقية وهو حوارات موسيقية مع خريجي المعهد العالي للموسيقا وهو أشبه بأنطولوجيا لرفد حركة المعهد، وكتاب آخر “من عالم الموسيقا – الأوركسترا” من إصدارات وزارة الثقافة وهو شرح علمي وتعريفي عن الأوركسترا والآلات التي تتكون منها، فضلاً عن الكتاب الذي نحن بصدده.
كتاب “مختارات من شعر جكر خوين” فضاء مختلف ورافد وخطوة تسجل لصنّاعها وهنا الصناع كثر، منهم من دعم ومنهم من طبع ومنهم من ترجم ومنهم من وزع، تجمعهم رغبة حقيقية بإعادة العجلة الثقافية لمسارها الصحيح، فالقارئ المطلع على ثقافات مختلفة لن يستطيع النظر إلى زاوية واحدة في العالم، إذ تتسلل إليه عدة بيئات ومشاعر ستصنع لابد رؤية جمالية جديدة، والمكتبة السورية تعود مزدهرة ومنفتحة وهذا خير رد على قبح مصنوع نقاومه غالباً بثقافة لامحدودة من التجارب المصقولة بنتاج أقوام وكتّاب صنعوا من التاريخ لحظات معاشة تجعل الوجود أقل مرارة، الثقافة فعل مقاومة، وثقافتنا تزهر في تربة صالحة.
نورا محمد علي