همنغواي وأورويل.. عميدا النثر الإنكليزي
قال إرنست همنغواي إن الأدب الأمريكي يتحدر برمته من كتاب واحد، هو رواية مارك توين “مغامرات هاكلبري فين”، وفي المنظور نفسه، يجوز القول إن النثر الإنكليزي الحديث يدين لرجلين، هما همنغواي وجورج أورويل اللذان كان لهما أثر بالغ في أسلوب الكتابة في القرن العشرين، إذ خلصت مقالات أورويل وروايات همنغواي النثر الإنكليزي من الفوضى وشددت على الوضوح والدقة والاستخدام المباشر والواضح للغة، فأوجزا جملهما لأقصى حد، حتى إننا قد نرى أحياناً أن اختصار همنغواي قد يبدو “مستلهماً من كلام الأطفال”، على حد تعبير الناقد دوايت ماكدونالد.
تأمل هذه الفقرة من رواية “ولا تزال الشمس تشرق”، حيث يدور جدال بين السيدة برِت وجيك بارنز حول حبيبها:
- ما خطبك عزيزي؟ أتشعر بالضيق؟
- آه يا برت، أحبك حباً جماً.
- أتريد أن أطرده؟
- لا، إنه لطيف.
- سأطرده.
- لا، إياكِ.
- بل سأطرده.
وربما يستمر هذا الأسلوب لصفحات عديدة.
عاصر أورويل وهمنغواي بعضهما، لكن ربما لم يلتقيا قط، على الرغم من أنهما عاشا في الحي اللاتيني بباريس عام 1928. كان أحدهما شاباً غامضاً يناضل لأن يصبح كاتباً، والآخر كان روائياً مشهوراً في ذلك الحين. ومع أن همنغواي ادعى أنه التقى أورويل في باريس في نهاية الحرب العالمية الثانية، إلا أن المصدر الوحيد لهذا اللقاء هو ذكر همنغواي له بعد سنوات حين أصبح أورويل مشهوراً، وملاحظة كتبها شاعر إنكليزي غير مشهور بعد وفاة أورويل، لكن لا يعقل ألا يذكر أورويل ذلك لأصدقائه الأدباء.
ومر الأديبان ببعض التجارب المتشابهة، إذ ذهب كلاهما إلى إسبانيا للقتال في صف الجمهورية، وإن كان بطريقتين مختلفتين، فقد قاتل أورويل في الخنادق وأصيب برصاصة في حلقه وهو يقاتل في فصيل تابع لحزب العمال الماركسي، ومضى همنغواي ليكتب لصالح نقابة صحف في أمريكا، ووصف حزب العمال الماركسي بأنه يجمع “معاتيه ومتوحشين”.
أشاد همنغواي بمهارات أورويل الأدبية، واعتقد أورويل أن رواية همنغواي “لمن تقرع الأجراس” هي إحدى الروايات القليلة التي استُلهمت من الصراع الإسباني ولها بعض الخصائص الأدبية. وعندما نُشرت رواية أورويل “الحنين إلى كتالونيا” في أمريكا عام 1952، أي بعد عامين من وفاته – وهي رواية عرض فيها أورويل كيف خان الشيوعيين للحرب الأهلية الإسبانية- أعرض همنغواي عن مراجعتها، لكنه كان مطلعاً على هذه الرواية لأنه كان يمتلك ثلاث نسخ منها، من بينها طبعة أولى نادرة طبعت عام 1938. ولكن على عكس بعض الكتاب، لم يكن أورويل معجباً كثيراً بأسلوب همنغواي النثري، على الرغم من أنهما يتشاركان بعض الصفات الأدبية.
وفي مقال كتبه عام 1946، عاد أورويل بذاكرته إلى الماضي ليتذكر أولى طموحاته في “كتابة روايات واقعية طويلة بنهايات تعيسة، ومليئة بالأوصاف المفصلة والتشبيهات الآسرة، ومليئة كذلك بفقرات تحتوي محسنات بديعة”.
وفي ثلاثينيات القرن الماضي، أصدر أورويل أربع روايات تقليدية، عدها فاشلة جميعها وطلب عدم إعادة طبعها بعد أن ذاع صيته، إذ تحتوي رواية “أيام بورمية” على بعض الفقرات النابضة بالحياة، وتبدو رواية “دع الزنبقة تطير” كأنين طويل استُلهم من تجربة أورويل التعيسة في العمل في متجر كتب رخيصة. وربما تكون رواية “الصعود إلى الهواء” أفضل رواياته، إذ إن تصويره لبطلها، جورج بولينج، جذاب ربما لأن توقه إلى ماضي إنكلترا يعكس بعضاً من حنين أورويل للسنوات التي سبقت الحرب العالمية الأولى. ورواية “ابنة القس” إخفاق واضح، يعود ذلك جزئياً إلى أن البطلة، دوروثي هير، مملة، ولكن الأهم من ذلك أن أورويل كان يعاني من مشاكل في تكوين شخصياته الأنثوية، فلم يستطع فهم الأنثى قط، وتمثل شخصياته الأنثوية رسوماً كاريكاتورية لأحلام الذكور وتمنياتهم. وعانى همنغواي من المشكلة نفسها إلى حد ما، إذ تبدو السيدة بريت، التي سبق ذكرها، وماريا من رواية “لمن تقرع الأجراس” كحلم مراهق بعشيقة.
وبالرغم من صيته الذي ذاع بسبب روايتيه السياسيتين، “مزرعة الحيوان” و”1984″، يظهر إتقان أورويل للنثر الإنكليزي بأفضل صوره في مقالاته، ففي مقالتيه “الإعدام شنقا” و”إرداء فيل”، قص أورويل حكايات أخلاقية صغيرة مليئة بصور ملموسة مفعمة بالحيوية، ولن ينسى من يقرأ “الإعدام شنقاً” المشهد الذي يقفز فيه المدان فوق بركة من الماء أثناء سيره نحو المشنقة، ولن يمحى من الذاكرة وصف أورويل للغوغاء الذين يريدون منه رمي الفيل بالرصاص ليأكلوا لحمه.
كان أورويل وهمنغواي عبقريين وجدا طريقة لجعل النثر الإنكليزي أكثر وضوحاً، وستخلد ذكراهما في أفضل أعمالهما، لكن بين هذين المؤلفين، لا ريب أن تأثير أورويل كان أكبر، ذلك أن همنغواي لم يعد مقروءاً كثيراً اليوم باستثناء قصصه القصيرة، وتسهل محاكاته على سبيل السخرية، حتى إنه كان يسخر من نفسه في بعض النواحي بعد الحرب العالمية الثانية، فمثلاً، سخر الكاتب الأمريكي إلوين وايت من عنوان رواية همنغواي “عبر النهر ونحو الأشجار” بأن حرّفه إلى “عبر الشارع ونحو المشواة” لشطط همنغواي فيها. وفي الخمسينيات لم يعد همنغواي يكتب إلا قليلاً، ولا تشبه آخر أعماله الرئيسية، “الشيخ والبحر”، أياً مما كتبه في الماضي.
بيد أن تأثير أورويل ما زال حاضراً، فلا تزال مقالاته تُقرأ في مناهج الأدب، وما زال لدى روايتي “مزرعة الحيوان” و”1984″ جمهور مشبوب بالحماس يزداد عدده باستمرار، وما زالتا تباعان بكثرة، حتى إنهما حصلا على أفضل المبيعات مجدداً بعد انتخابات 2016 و2020 الرئاسية الأمريكية، أي بعد ستة عقود من صدورهما لأول مرة، إذ لا تزال موضوعاتهما نابضة بالحياة حتى اليوم، مثل تحريف اللغة والنزعة المتنامية نحو قمع الكلام ومسألة بقاء الحقيقة الموضوعية من عدمه، وغيرها.
إعداد: علاء العطار