ثقافة ضد البربرية
ناظم مهنا
ياله من اغتراب يعيشه الإنسان لا ينفع معه النقد ولا صرخات الشعراء والمثقفين وهم يعبّرون عن اختناقهم مما يجري في هذا العالم، إذ كثيراً ما يواجه الواحد منا نفسه أو يواجه من آخرين بمثل هذا التساؤل الساذج أو العميق، عن جدوى الكتابة أو النشاط الثقافي، في بحران هذه التفاهة الكونية، في عالم مضطرب لا تكاد تخمد فيه الفتن والحروب في مكان حتى تشتعل في مكان آخر، ويقوم الأشرار الدوليون بإزكاء أوار الحروب! وإن يكن التساؤل عن جدوى الثقافة، مسوغاً ومفهوماً، غير أنه طفولي أو لا يتعدى أن يكون صدى للانفعال والتوتر النفسي عند مرهفي الحس، إنه إحساس أقل ما يقال عنه إنه غير عميق أو مادون ثقافي. فالثقافة عبر التاريخ كان لها هذا الدور المواجه للتوحش والبربرية، سواء علي الصوت أم خفت، ولم يكن أمام الإنسان المذهول والمصدوم إلا أن يشهر ثقافته، ليؤكد أمام الله والتاريخ أنه ليس حيواناً بل هو شيء آخر مختلف عما يمارسه البرابرة، وهذا ما جعل أحد النقاد المعاصرين، يقول: “ليس ثمة وثيقة للثقافة، إلا وهي أيضاً للبربرية” وفي عالم كهذا تزداد الحاجة إلى الثقافة بمعناها الحضاري، وتعليقاً على ذلك يقول الناقد البريطاني تيري إيغلتون: “حتى في مجتمعات لا تملك وقتاً للثقافة، مثل مجتمعاتنا، ثمة أزمنة وأمكنة تكتسي فيها الثقافة، فجأة، أهمية متجددة، مشحونة بدلالة تتجاوزها هي ذاتها” نعم الثقافة تغدو صرخة احتجاج ثم فعل مقاوم ضروري وملح.
أول ما يتبادر إلى أذهان الناس، حتى البسطاء منهم، عندما ترتكب الفظائع، أن يتذكروا ثقافتهم التي هي حصنهم اللاشعوري، ليس أمام الإنسان الأعزل إلا أن يقول مدافعاً عن هويته الإنسانية: أنا ابن حضارة عمرها آلاف السنين، كيف يحدث هذا على أرض أجدادي؟! ويكاد لا يصدق أن من يقومون بالفظائع، سواء أكانوا دولاً أو جماعات أو أفراداً، يمكن أن يكونوا ورثة ثقافة، أو من الأصل المتواتر لشعب توحد الثقافة هويته! لكن، كيف، والبرابرة يستهدفون حياة الإنسان وثقافته وكل ما هو عزيز عليه، ولا يوفرون حتى القبور! إن البرابرة القدماء والجدد يتشابهون مع الطاعون، وقد شبه المؤرخ الدمشقي ابن عرب شاه وحشية المغول والتتار بالبلاء الأعظم وبالطاعون الأصفر، وكتب ابن الأثير وهو يشهد زحف هولاكو على ديار الإسلام، ومات ابن الأثير قبل أن يصل هذا الوحش إلى بغداد، وكان قد فعل ما فعل في المدن الشرقية: نيسابور وسمرقند وجبل ألموت، وقتل مئات الألوف في طريقه حتى الذين سالموه دون قتال، علق ابن الأثير على ذلك: “لقد بقيتُ عدة سنين معرضاً عن ذكر ما جرى استعظاماً له، كارهاً ذكره، فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني متُّ قبل حدوثها، وكنت نسياً منسيا” ولنا أن نتخيل تلك المحنة الحالكة السواد والغزاة يدمرون كل شيء، ويلقون بكل ما أبدعته العقول وسطرته الحضارات المتعاقبة في ماء دجلة! ويتكرر مثل هذا الأمر مع كل اجتياح أو غزو قديم أو معاصر.. حين غزا الإسرائيليون بيروت عام 1982 كتب الشاعر الفرنسي يوجين غليفك: “لقد فقدت ثقتي بالإنسانية” وهل ننسى مشهد الأمريكيين وهم يقتحمون متحف بغداد ويتناهبوه؟!
هذا الصدام التاريخي بين التوحش والثقافة، بين القوة الغاشمة، والقوة الناعمة والدائمة من (الديمومة) تمنحنا عزاء، إذ لا يعقل أن يستسلم الإنسان كلياً لوطأة التجبر والعدوان الغاشم. قد يصاب الإنسان بالهلع للوهلة الأولى، قد يصاب بالإحباط، ولكن سرعان ما يستفيق وتوقظه إنسانيته، التي هي مثل الشوكة التي لا تنام في صدره وتجعله يتساءل في ذروة قلقه عن معناه وعن هويته وعن وجوده، وربما سيغني أو يرقص، كما يفعل الأفريقيون حين يغضبون، أو يصرخ أو يرسم لوحة أو يكتب قصيدة، أو يسرد حكاية، أو يفعل أي شيء في وجه الوحشية.. هكذا فعل بيكاسو حين رسم الغرينيكا، وكذلك فعل إيلوار حين كتب قصيدة الحرية لتكون أنشودة المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال النازي.. الثقافة هي تأكيد دائم على مدنية الإنسان.