أكبر من تدوين وأكثر من ذاكرة
في أبعاد المشهد ومحايثة لتفاصيله الكثيفة والممتدة إلى ما بعد الحكايات، ثمّة ما يحمل الذاكرة الكلية على أن تلتقط من التفاصيل ما هو دالّ وجوهري ويعين الذاكرة على أن تصبح (وبضراوة القصص والمحكيات) أكثر رسوخاً في طبقات التاريخ العالية، وأعني هنا في خلفية المشهد الفلسطيني المحتدم والمتواصل فصولاً لما تنتهي بعد. تماماً كما هو مشهد الحرب على سورية وما تركته في أقصى الصورة من حكايات تجلوها الذاكرة، حكاية أبطال هم ذاكرة الحضور، ذاكرة الحياة، إذن كيف نلتقط تلك المحكيات لا لنوثقها فحسب، بل لنفتح في أفق معرفتها ما يجعلها قادرة على أن تعيد تأثيث الوطن في الذاكرة، والوطن هو الإنسان من قبل ومن بعد، وكيف لنا أن نحاكي بصور سردية أو شعرية تلك الصور، فهل تمثل الصورة السردية هنا في مغامرتها لالتقاط محكيات عميقة، مغامرة محسوبة بامتياز، أي وبعيداً عن سلطة التدوين ذاتها، وما يشي به الكلام هو الذهاب إلى أبدية خضراء تعيد السير والفصول والوقائع، ولكن بطريقة أكثر اختلافاً لأنها تقبض على حيوية ودينامية تلك التفاصيل، حكاية بشر ذهبوا إلى الحياة من متخيل الموت وعدمياته الطليقة وحفروا في أعالي القلب جدارياتهم الباسقة، جداريات الحياة وكلفتها الباهظة، إذ تتعاضد الأشياء ومكونات أرضية وسماوية لتحمل صورهم بوصفها ذاكرة جديدة، حيث يذوب مالا يذهب للنسيان. إنها الهوية الجديدة لعلّ الإبداع بأقانيمه المتعددة ومستوياته المختلفة وفي لحظة الإلهام القصوى ينتبه للفاعلية الإبداعية، سر اللغة والكينونة، لينشئ أكواناً جديدة لبهاء تلك اليوميات، ولعلّ المشهد السوري والفلسطيني بآن معاً هو الأكثر إلهاماً لذاكرة عربية طليقة، بل وإنسانية على اتساعها، وبما يفيض عنها من سلطة الحكايات ومتخيل وقائعها وضراوة واقعها ما يحملنا على استحقاق دهشة فطرية، دهشة مركبة بامتياز لتكون الحياة جدارة الانتماء إليها وجدارة الاستحقاق لبشر حقيقيين بما يكفي، هم أبناء الحياة في المبتدأ وهم طلقات الروح في بهاء النهارات المختلفة، مآثر من شكلوا خط الدفاع الأمامي عن الأرض بوصفها الهوية النهائية، وعن القيم الإنسانية بوصفها منظومة البشرية الحية، لا انفكاك بين المشهدين وأزمنتهما المتعاقبة في مضارعة الهوية، فالعدو واحد مهما اختلفت ألوانه ووجوهه وكل ذلك سيشكل استحقاقاً تاريخياً لسورية وهي تنتخب مستقبلها وحاضرها، خطوة نحو الحلم وخطوات كثيرة نحو العمل، ذلك أقنوم الذاهبين إلى الحياة اتصالاً بحيوية تلك المحكيات الحارسة للذاكرة البهية، ذهبت سورية إلى استحقاقها الكبير وهي أكثر صحواً وامتلاءً، أرضاً طردت الغزاة وسماءً حانية على القلوب المتعبة قليلاً، وذهبت فلسطين إلى استحقاق نصرها وما بعده وهي أكثر امتلاءً ويقظة لحاضر عميق ومتغير والدّال فيه هو إنساننا الجديد في وحدته الفكرية والتاريخية والجغرافية.
أحمد علي هلال