السياسة الخارجية الأمريكية حولت مبدأ مونرو إلى استراتيجية عالمية..
“البعث الأسبوعية” ــ عناية ناصر
يعتقد صانعو السياسة الأمريكيون أنهم قد تم اختيارهم من السماء ليحكموا العالم. كما يعتقد المسؤولون الأمريكيون أن أي شيء يفعله أي شخص في أي مكان على هذا الكوكب هو مسألة تهم واشنطن، وقد انعكس ذلك في السياسة الخارجية التي حولت مبدأ مونرو إلى استراتيجية عالمية، مفادها إنه يحق للولايات المتحدة، والولايات المتحدة فقط، التدخل في كل مكان على وجه الأرض.
من المسلم به أن السياسة لا تتسق تماماً، إذ يفوض العم سام بعض سلطته ضمنياً في بعض الأحيان. فواشنطن لا تهتم كثيراً، على سبيل المثال، إذا أرسلت فرنسا قواتها إلى إفريقيا الفرنكوفونية، فقد أصبحت ليبيا خليطاً عسكرياً يضم العديد من الحلفاء الأوروبيين والشرق أوسطيين، بينما التزمت واشنطن بالدبلوماسية. لم يعترض المسؤولون الأمريكيون عندما استخدمت المملكة السعودية جيشها للتدخل في البحرين، ما أدى إلى سحق الاحتجاجات الشعبية المؤيدة للديمقراطية؛ والأسوأ من ذلك أن الولايات المتحدة ساعدت في غزو الرياض القاتل لليمن. ولقد حاولت، بكثير من الدم والأموال، فرض إرادتها، وتغيير المجتمعات في آسيا الوسطى والبلقان وأوروبا الشرقية والشرق الأوسط وآسيا والمحيط الهادئ، ولكن غطرسة واشنطن وتطلعاتها الإمبريالية غالباً ما أثبتت فشلها، فقد كانت النتيجة العديد من الإخفاقات المكلفة، مثل غزو العراق.
لكن الأمر الأكثر تدخلاً هو سياسة العقوبات الأمريكية. والتي كانت في الأصل مجرد قيود على الأمريكيين، وعلى سبيل المثال، يمنع الحظر المفروض على كوبا منذ ستة عقود (مع بعض الاستثناءات) الأمريكيين من التعامل مع كوبا؛ وفعلت الحكومات الأخرى الشيء نفسه، وفرضت قيوداً على مواطنيها فقط، وليس الرعايا الأجانب. ومع ذلك، ابتكر صناع السياسة الأمريكيون في الثمانينيات عقوبات أخرى. وبالنظر إلى الهيمنة الاقتصادية العالمية لأمريكا، يمكن لواشنطن الآن أن تجعل الدول والشركات تطبق سياساتها، فأي بنك يمكن عقابه وتغريمه بمليارات الدولارات إذا قام بإجراء أي معاملة، مهما كانت بسيطة، مع شخص أو كيان خاضع للعقوبات. وبهذه الطريقة تسعى واشنطن إلى إجبار العالم كله على تنفيذ السياسة الأمريكية. وقد أدى ذلك إلى قيام دول حليفة، ولا سيما في أوروبا، باتباع السياسات الأمريكية حتى عندما تتعارض مع مصالحها الخاصة. ومثلاً، تتم معاقبة الشركات والأفراد الأوروبيين بسبب استثماراتهم في كوبا، ولطالما مُنع الأوروبيون فعلياً من التعامل مع السودان. وفي الآونة الأخيرة، منعت العقوبات الأمريكية الشركات الأوروبية من دخول السوق الإيرانية بموجب خطة العمل الشاملة المشتركة حتى حينما حاولت الحكومات الأوروبية إنقاذ الاتفاق من حملة “الضغط الأقصى” التي قادتها إدارة ترامب.
ومع ذلك، فإن هذه الخطوات، التي أشعلت المقاومة الأوروبية بدلاً من الإذعان لها، لم تقطع شوطاً كافياً لوقف تدخل صقور المتطرفين الذين يسعون لخلق ذرائع للحرب في عدة بؤر ساخنة (كثير منهم شجع الاعتداءات الإسرائيلية الأخيرة على غزة(.
كما اتخذت الولايات المتحدة موقفاً أكثر عدائية تجاه روسيا، ولربما شعر صانعو السياسة في واشنطن، المنفصلون عن موسكو بمحيط كبير، بحرية أكبر في المخاطرة بالصراع، لأنه سيتم خوضه بشكل أساسي في أوروبا. وقد كان هذا هو الحال في كلتا الحربين العالميتين في القرن العشرين، كذلك لم يُظهر المحافظون الجدد قلقاً كبيراً بشأن الخسائر غير الأمريكية، التي بلغت مئات الآلاف أو أكثر، خلال ما يقرب من عقدين من الصراعات والحروب، حتى أن السناتور ليندسي غراهام رفض الحديث عن تكلفة تجدد الحرب الكورية طالما أنها ستكون “هناك” في شبه الجزيرة الكورية.. لماذا القلق بشأن بضع مئات الآلاف أو ملايين الضحايا الكوريين؟!
لقد اعتقدت ألمانيا أنه يحق لها وضع سياسة الطاقة الخاصة بها، فاتفقت مع روسيا على بناء مشروع خط أنابيب غاز “نورد ستريم2″، لكن واشنطن هاجمت برلين مباشرة. وفي كانون الأول 2019، وافق النواب الأمريكيون على تشريع يستهدف الشركات الأوروبية المشاركة في المشروع، ما سيعزز – كما يظن سناتور تكساس تيد كروز أحد مقدمي مشروع القانون – صادرات الغاز المسال الأمريكي.
على الرغم من أن المشروع كان على وشك الاكتمال إلا أن التهديد بالعقوبات دفع الشركات الأوروبية إلى الانسحاب. ويبدو أن كروز، ومعه السناتور من ولاية ويسكونسن رون جونسون، والسناتور توم كوتون من ولاية أركنساس، يستمتعون بكتابة رسائل تهديد للشركات الأوروبية بالدمار والخراب، حتى أنه تم تهديد ميناء ألماني مملوك لحكومة محلية، إضافة إلى أعضاء مجالس الإدارات ومسؤولي شركات ومساهمين وموظفين، بعقوبات قانونية واقتصادية قاتلة تشمل المقاطعة التجارية والمالية.
رفض المسؤولون الألمان الاستسلام وإخضاع سياسة برلين الخارجية لواشنطن. وتدخلت موسكو لمد الأنابيب، ما دفع الكونغرس لتوسيع العقوبات. أدى رفض التنازل الألماني إلى مطالبة الكونغرس بفرض عقوبات أكثر صرامة. في الواقع، بدت إدارة ترامب سعيدة تماماً بتدمير الشركات الأوروبية، وكان من المحتمل أن تتضاعف هذه العقوبات لو أعيد انتخاب ترامب؛ إذ أن إدارة بايدن، بعد أن وعدت بتقوية العلاقة مع الحلفاء، أقل حماساً لفتح جبهات جديدة في الحرب الاقتصادية.
ومع ذلك، وتحت ضغط الكونغرس، أعلن وزير الخارجية أنطوني بلينكين: “كما قال الرئيس، فإن نورد ستريم2 صفقة سيئة لألمانيا وأوكرانيا وحلفائنا وشركائنا في وسط وشرق أوروبا.. كما أوضحت العديد من الإدارات الأمريكية أن خط الأنابيب هذا هو مشروع جيوسياسي روسي يهدف إلى تقسيم أوروبا وإضعاف أمن الطاقة الأوروبي”. حظي قانون العقوبات الذي أقره الكونغرس في العام 2019 وتم توسيعه في العام 2020، بدعم كبير من أغلبية الحزبين. وتلتزم إدارة بايدن بالامتثال لهذا التشريع، وتكرر الخارجية تحذيراتها من أن أي كيان منخرط في خط نورد ستريم2 يخاطر بالعقوبات الأمريكية، ويجب أن يتخلى على الفور عن العمل فيه. ومع ذلك، وعلى الرغم من معارضتها خط الأنابيب، رفضت إدارة بايدن حتى الآن إضافة عقوبات جديدة، فهي لا تريد مواجهة مع أحد الحلفاء الذين التزم الرئيس بتعزيز العلاقات.
يقدم المسؤولون في واشنطن تبريرات غير مقنعة لخوض حرب اقتصادية ضد حليف قديم وفرض أجندة أمريكا المعادية للروس: أولها أن خط الأنابيب ليس في مصلحة ألمانيا، على الرغم من أن المشروع سيسهل عبور إمدادات الغاز، ويخفض تكلفتها، ويحسن أمنها، وكلها فوائد واضحة للشعب الألماني، إلا أن واشنطن تصر على أن الخط قد يزيد من اعتماد برلين الكبير بالفعل على روسيا. وصانعو السياسة الأمريكيون، الذين يأملون، في توسيع صادرات الغاز الأمريكي المسال، يلقون محاضرات على ألمانيا بشأن ما هو في مصلحة ألمانيا.
ومع ذلك، لن يكون هناك اعتراض كبير إذا عرضت واشنطن رأيها ببساطة، بغض النظر عن مدى تحيزها وتخديمها لمصالحها الذاتية، فخط الأنابيب مثير للجدل في ألمانيا، إذ تعارض مرشحة حزب الخضر، أنالينا بربوك، المشروع، كما يواجه انتقادات كبيرة داخل أوروبا. ومع ذلك، فإن تهديد المؤسسات الألمانية والشركات الأوروبية تحت يافطة مساعدة برلين غطرسة غير عادية، ناهيك عن أن الولايات المتحدة مهتمة أكثر بكثير بتوجيه ضربة اقتصادية أخرى لموسكو. وللأسف، فإن سياسة المواجهة الأمريكية تدفع نحو حرب باردة جديدة، ودون سبب وجيه، لأن روسيا لا تشكل تهديداً عسكرياً خطيراً لأمريكا، ولا أحد يعتقد أن بوتين يريد الحرب مع الولايات المتحدة، وحتى معظم الأوروبيين يدركون أنه ليس لديهم مصلحة في معاداة روسيا، ما قد يؤدي إلى تكاليف كارثية متعددة. ولا توجد أي مصالح حيوية لواشنطن وموسكو في الصراع في أي مكان آخر.
علاوة على ذلك، فشلت العقوبات المتزايدة بشكل مطرد في إجبار روسيا على الانصياع للغرب، على الرغم من العبء الذي فرضته العقوبات على اقتصادها؛ ومن المرجح أن يؤدي تراكم العقوبات الإضافية إلى ترسيخ العداء وتشجيع ردة الفعل الروسية بدلاً من فرض الاستسلام والخضوع، كما تريد واشنطن. ومع توقع عقد قمة بين بايدن وبوتين، سيكون من الأفضل للولايات المتحدة نزع فتيل التوترات بدلاً من فتح جبهة أخرى في صراع اقتصادي دائم التوسع.
وللمفارقة فإن الفشل في استكمال خط الأنابيب لن يوقف صادرات موسكو، بل سيجبرها على الاستمرار في العبور في أوكرانيا، وهو أمر لمصلحة كييف. وفي الواقع، يتم الاستشهاد برسوم إعادة الشحن التي تحصل عليها أوكرانيا كمبرر لوقف خط الأنابيب. إلا أن أوكرانيا لم تكن أبداً مصلحة أمريكية مهمة. لقد عاشت خلال القرنين الماضيين كجزء من الإمبراطورية الروسية والاتحاد السوفيتي، ولم تكن لها أهمية جيوسياسية لأمريكا. وكييف مهمة سياسياً لأمريكا لأن بعض الأوكرانيين، الذين ينحدر معظمهم من الشرق المناهض لروسيا، ويدفعون بأجندتهم الشخصية إلى واشنطن رغم ما يعنيه ذلك من تكلفة جيوسياسية للولايات المتحدة. وإذا أراد صانعو السياسة الأمريكيون تسجيل نقاط سياسية من خلال مساعدة أوكرانيا، فلا ينبغي لهم محاولة تجنيد الموارد الألمانية. وبدلاً من ذلك، على الكونغرس تخصيص الأموال وعرض القضية على الناخبين. ومع ذلك، فإن الأعضاء يسعون جاهدين لإخفاء محاباتهم الخاصة، لأن دعم أوكرانيا، عندما تعاني أمريكا من عجز سنوي يزيد عن 3 تريليونات دولار سنوياً، أمر يصعب تبريره.
ينتج عن الغطرسة الواضحة في مبنى الكابيتول هيل تكلفة مهمة أخرى لأمريكا، فقد أدى هجوم واشنطن على السيادة الألمانية إلى استياء يحتمل أن يضعف التعاون المستقبلي. وحتى الحكومة التي يقودها الخضر، والتي يمكن أن تنبثق من الانتخابات المقرر إجراؤها في أيلول المقبل، قد تكون أكثر مقاومة للمبادرات الأمريكية في قضايا أخرى؛ والمسؤولون الأمريكيون الذين يعتقدون أن قدرهم هو حكم العالم لا يقدرون أحياناً القسوة والحقد وردود الفعل الأخرى الناتجة عن أطماعهم الشخصية.
يلخص نهج واشنطن تجاه نورد ستريم2 فشل السياسة الخارجية الأمريكية على الأقل منذ نهاية الحرب الباردة. إذ يعتقد صانعو السياسة الأمريكيون أنهم يرون أكثر وضوحاً، وأنه يحق لهم فرض خياراتهم على العالم، ودون أدنى اهتمام بالتكاليف التي يفرضونها على الآخرين.
إن موقف المسؤولين الأمريكيين من الصديق والعدو على حد سواء هو الخضوع أو الخراب. وكما هو واضح في الشرق الأوسط، فإن النتيجة في كثير من الأحيان هي الخراب دائماً. إن روسيا بوتين أنموذج غير سار للأمريكيين، وقد فعلت واشنطن الكثير للمساهمة في تصعيد الأعمال العدائية. ومن مصلحة أمريكا حل النزاع على أوكرانيا بدلاً من تمديده، وبدلاً من تكديس المزيد من العقوبات، عليها السعي لتسوية تدعم استقلال كييف وتعالج مصالح موسكو الأمنية.
وبالأهمية نفسها، على واشنطن المسارعة لتطبيق ما سمي منذ فترة طويلة بـ “سياسة خارجية متواضعة” تبدأ باحترام قرارات الحلفاء القدامى، فليس هناك سوء استخدام للهيمنة الاقتصادية الأمريكية أكبر من معاقبة حلفاء أمريكا وأصدقائها، خاصة لتحقيق مكاسب اقتصادية.
كان أحد أسوأ جوانب سياسة ترامب الخارجية استخدامه غير المنضبط للعقوبات الاقتصادية باسم “الضغط الأقصى” ضد حكومات متعددة. وكانت النتيجة معاناة جماعية للشعوب المضطهدة في ظل عدم وجود مكاسب أمريكية واضحة. وإدارة بايدن اليوم لديها فرصة للتراجع عن قصر النظر، وسيكون التخلي عن استخدام العقوبات الاقتصادية، بما في ذلك ضد نورد ستريم2، نقطة بداية جديدة.