ليست مجرد صورة يا عم “متولي”
مجرد صورة فوتوغرافية، هكذا تبدو لمن يشاهدها، رجل في العقد السادس من العمر، يعطي وجهه مع نصف استدارة من جسده للكاميرا، وكأنه على موعد مع “تلويحة” مستعجلة؛ أمامه تتكئ حقيبة سفر على ثقل وجده، حقيبة من تلك التي “يوضبها” المسافر لبعض من الأيام، قد تطول لكنها ستنقضي، ريثما يعود إلى حيث كان، كما كان يظن وأهله وأصدقائه يظنون، إلا أن الواقع خارج إطار الصورة لم يكن كذلك، لقد تجمد الزمن في ذلك المسرح الذي على شكل صورة إلى الأبد، ما من هتاف عال، ولا تصفيق طويل، ما من موسيقا مرافقة للحكاية، ولا ممثل ينحني للجمهور، ما من أصوات وأسرار وكلام علق فوق الكراسي أو وقع تحتها، صورة صامتة، صورة أخيرة، كل البلاغة فيما قالت وستقول، هكذا ستبقى في ذاكرة من شاهدها، وهكذا سيبقى المسجون في ظلال “كربونها”، على سفر أبدا، فما من صورة جديدة ستكون على باب الوصول هذه المرة يا عم “متولي”، وعلى غير عادتك الوداع، هذه المرة جاء الوداع طويلاً كدمع متقطع لا يصل.
العم “متولي” شخصية مصرية لم يكتبها نجيب محفوظ في سيرة من سيره الشعبية، حتى أنها ليست من أفكار “أسامة أنور عكاشة” أو “وحيد حامد”، فالشخصية هنا مصرية، أما الحكاية والحبر فسوري، دارت فصولها في مسرحين، مسرح الحياة التي قضاها تتنازعه الروح بين هوى أم الدنيا موئل الروح، وحبق “جلق” موئل القلب، ومسرح الحمرا، حيث قضى العم “متولي” حياته بين كواليسه وصالته، وحضر وشاهد واستنشق أهم العروض المسرحية السورية التي قدمها هذا المسرح الدمشقي الأصيل لعشاق هذا الفن وأهله، عاش مع شخصيات مسرحية طويلاً، شاهدها وهي في قمة مجدها تتبختر فوق الخشبة، ثم تألم معها على نوازعها وهواجسها، على قلقها ورهبتها، على رغباتها ومنتهى آمالها، على الخيبة وخذلان المسعى، كما ينبغي بالشخصيات المسرحية، صارت لديه خبرة طويلة في الإضاءة، فلقد اشتغل مع معظم مصمميها لذلك المسرح، قام بتركيب ديكور العرض مراراً ومراراً، وربما أبدى رأيه وفق خبرته الطويلة في النظر، فأصاب حيث أخطأ المنطق، وقف على مدخل المسرح مستقبِلاً الجمهور، ثم مودعاً له، مازح هذا الصديق، وحكى تلفاً روحياً ما لتلك الصديقة، ولا ريب أن مراسه الطويل في الأشغال المسرحية مع مختلف أنواعها، طور لديه حساً فنياً خاصاً، لن يكون بقادر على الاستمرار دونه، إنه شرط “بريختي” نوعاً ما، “كسر الإيهام بالحنين”، وهذا ما فعله العم “متولي” ببراعة لا تصدق، لقد كسر الإيهام كله بالحنين كله، تاركاً صورة معلقة في بال محبيه، تلوح للحياة بيد من تعب، كما لوحت للحياة على الخشبة بيد من حياتين ونصف.
تمّام علي بركات