أبو النواس بين التجني والإنصاف في رابطة الخريجين الجامعيين
ربما لم يضف الدكتور أحمد دهمان جديداً يلامسُ جوهر العنوان الذي وضعه لمحاضرته التي ألقاها في رابطة الخريجين الجامعيين بحمص بعنوان “قراءة جديدة في شعر أبي النواس”، لأن مضمون ما جاء به لم يرتق لمستوى التجديد والتفرد في إماطة اللثام عن ظاهرة شعرية فذّة تفرّدت في عصرها وعصور لاحقة، فقد سبق وتناول باحثون كُثر التجربة الشعرية النواسية، نظراً لما تمتّعت به تلك التجربة من تفرّد على صعيد الشكل والمضمون، وقد حفز هذا التفرد كلّ من سعى لتحريك المياه الراكدة في المشهد البحثي والنقدي الأدبي عبر الزمن المتعاقب، لكن الأكاديمي والناقد أحمد دهمان حرص من خلال قراءته “الجديدة” لشعر أبي النواس أن يبيّن حجم الجور والظلم الذي لحق بتلك القامة الفنية الفذة، وخاصة تبيان زيف ما نُسب إليها ظلماً وبهتاناً من قصائد فسق ومجون هو منها براء، رغم تأكيد الباحث على العلاقة الوطيدة بين أبي النواس والخمر وانعكاس تلك العلاقة الواضح في شعره، كما يشير في أكثر من موضع، لكن دور الخمر كما يرى الدكتور أحمد هو دور محفز ومحرض على الإبداع، حيث يصل المرء معه إلى حالة الصفاء الذهني والاسترجاع الحسي.
بداية، يعود المحاضر، الذي كانت الأطروحة التي أعدّها لنيل درجة الدكتوراه في الأدب العربي قبل حوالي ثلاثين عاماً، إلى الظروف السياسية والحياتية التي ساهمت في بلورة التجربة الشعرية النواسية وإيقاظ طاقاته الإبداعية المتميزة، فقد عاش ظروفاً سيئة، يتيم الأب مهمل الأم، ملازماً لرفاق السوء؛ وهذه التنشئة، إلى جانب العلوم التي نهلها في مختلف المجالات، جعلته شخصية متميزة، وهذا الربط بين ملازمة رفاق السوء ونهل العلوم فيه شيء من المبالغة والقفز فوق المنطق!
كان عصره حافلاً بالتقدم والازدهار العلمي والاقتصادي، غارقاً بالاضطرابات السياسية والبؤس والشقاء والتفاوت الطبقي بين العامة والخاصة، واجتماع المتضادات، فكان الزهد إلى جانب المجون، وحرية العقل تصطدم بالاتجاه السلفي المقيد للتطور. وفي خضم مقومات ذلك العصر، وجد الشاعر أبي نواس الذي تمرّد على واقعه وسعى إلى تحطيم ما هو سائد، وقلقلة ما هو راكد في الأذهان، ووجدت شخصية أبي النواس التي تتسمُ بالثنائية والتناقض بالفعل والسلوك والتفكير، وهو الإطار العام الذي يميّز شعره.
شكّلت تجربته – كما يرى الدكتور دهمان – ثورة على الأنماط الشعرية التقليدية والقيم الإنسانية السائدة في عصره، فقد كان شعره ملتصقاً بحياته معبّراً عنها، كان شاعراً شقياً عظيماً كما يصفه طه حسين، ظلمه معاصروه كما وقفوا في وجه التجديد الذي أبدعه، وسار على هديه اللاحقون، رُسِمَتْ حوله أوهام وقصص وأساطير تدلّ على خيال مريض فسمّوه بأنه مهرج القصر ومضحك الخليفة، فضاع الكثير من شعره من كثرة ما أُضيف إليه من أشعار ركيكة وفاحشة.
تميّز شعره بقربه من روح الناس والرؤى الإنسانية والتعبير عن مكامن النفس، مع ذلك كان ماجناً مفلسفاً اللذة وله فيها رؤى خاصة، ذهب الناس في أمره مذاهب شتى أعجب فيه بعضهم، وأسقط عليه بعضهم صفات شتى، واخترعت له العامة الحمقى صوراً أسطورية بعيدة عن صورته الحقيقية، فضاع شعره الصحيح في الكمّ الغريب من الأشعار التي نُسبت إليه بعد موته. وقد استطاع أن يصل بفن الخمرية لمرحلة النضج والانفتاح، وأرسى دعائم مدرسة فنية ذات أبعاد وجودية، لأن الصهباء عنده وسيلة لشحذ طاقات إبداعية وتطهير النفس والتحريض على الإبداع.
والشعر سر وجود أبي نواس ودنياه، ففيه تكمن كيمياء السحر المخلّص من الألم وجوهر الشعر عنده الخمر، ومن هنا كانت العلاقة بين شعره وخمره، فالأدب الخمري أدب وجودي كما يقول أحد الباحثين، لأنه يبيّن قلق الإنسان وحيرته بين حقائق المصير والمفترض، يتأملها، يحدق فيها، ولكنه لا يأخذ إلى يقين دائم.
ولكن انحيازه للخليفة الأمين، المهزوم في غمرة الصراع السياسي على السلطة، ألحق به التشويه، انطلاقاً من محاولة خصوم الأمين تبرير قتله تطبيقاً للشريعة التي خالف أصولها بمصاحبة أمثال أبي النواس، فكان هذا الأخير ضحية النزاع السياسي المحتدم بين الإخوة الأعداء في العهد العباسي.
سيرةٌ غنيةٌ يتمتّع بها الشاعر الحسن بن هاني “أبو النواس”، تستحق الإنصاف بدراسات أكاديمية معمّقة وموضوعية، بعيدة عن التحزبات والأهواء الدينية والأدبية، كان للمحاضر دهمان محاولة قيّمة لخوض غمارها.
آصف إبراهيم