مجلة البعث الأسبوعية

خان الهوكيدون.. رحلة الحج من حلب إلى القدس

“البعث الأسبوعية” ــ غالية خوجة

كيفما استدرت في حلب، نطقت حجارتها، وحدثتك عن أزمنتها، وسكانها، وأحداثها، ورغم إصابتها بالتدمير الإرهابي، إلاّ أنها متفائلة بإعادة أحوالها إليها، لتتألق من جديد.

هذه المدينة الاستثنائية، حلب، تشتهر بالعديد من المعالم والآثار الإنسانية، ومنها الخانات التي وصل عددها إلى 150 خاناً مع نهاية القرن التاسع عشر.

أو ليست حلب موقعاً مهماً للعالم، ويشهد عليها طريق الحرير، وهناك خان اسمه خان الحرير عمره يعود إلى النصف الثاني من القرن السادس عشر، الواقع في المنطقة التجارية بين الجامع الكبير والسبع بحرات، وكان يقيم فيه التجار الهنود ليبيعوا بضاعتهم، وأولها الحرير؟

 

مجتمع متكامل

بلا شك، الخانات جزء من مسيرة “الشهباء” العمرانية والتجارية والاقتصادية والاجتماعية والدينية، لذلك تبرز كمعالم أثرية، تحكي عن الناس الذين سكنوها، والذين قدموا من بلادهم ليقيموا فيها بغرض التجارة أو السياحة أو الصناعة؛ كما تحكي عن التجار وبضائعهم وتبادلاتهم وعلاقاتهم فيما بينهم، وبين الناس، وعاداتهم التي لا تفارق كرم الضيافة والشهامة وإغاثة الملهوف، وكيف كان للتجار كبيرهم الذي يوجههم ويحتكمون إليه حتى في علاقاتهم الاجتماعية.. “شهبندر التجار”.

ومعروف أن الخان بمثابة الفنادق المعاصرة، يتميز بناؤه العمراني بالفخامة من ناحية الشكل الفني المزين بالزخرفة والنقوش والرسوم والكتابة والرموز؛ وعادة، ما تتألف الخانات من طابقين قائمين على فسحة أرضية تستقبل تحولات السماء والفصول والسكان، مزينة بالأشجار والورود، وبمجالس للاستراحة؛ وقد تتضمن فسحة أخرى أشبه بالإسطبل لإيواء وسيلة النقل الحيوانية، مثل الحصان والبغل والحمار.

ويضم الطابق الأول من الخان المحلات التجارية، ويتوزع الطابق الثاني إلى غرف للإقامة تهتم براحة المسافرين.

 

أصول التسمية

يكتسب الخان اسمه من عدة مواضيع منها:

– المهنة الصناعية الرائجة مثل خان الصابون، الكتّان، النحاسين، البرغل، العسل.

– من صفة مالكه كنيةً أو مهنة، مثل خان الوزير، طومان، القاضي، خاير بك، العبه جي، الناصر، العبسي.

– من العلاقة القائمة بينه والمنطقة المحيطة به، أو قربه من مكان يشتهر بحرفة ما، أو جهة ما، مثل خان الجمرك الذي أعيد تأهيله وتفعيله مع بعض أسواق وآثار حلب الأخرى، لينفض عنه غبار الحرب بالحياة، ويتألف من 116 محلاً تجارياً.

– من خلال رواده الذين يقصدونه للإقامة، مثل خان البنادقة الذي يفضله الإيطاليون وقنصلهم، وخصوصاً، القادمون من البندقية.

– من خلال الهدف الاجتماعي أو الديني الذي أنشئ له كمحطة في حلب للاستراحة، ومتابعة المسيرة إلى المقصد الأساسي، مثل خان القدس “الهوكيدون” الشاهد على عراقة حلب وتعايشها الأزلي بين الأديان والطوائف.

 

خان “الهوكيدون”

يعتبر خان القدس أو “الهوكيدون” (البيت الروحي بالأرمينية) مركزاً لتجمّع القوافل والحجاج الأرمن الذاهبين إلى فلسطين؛ وكان القادمون منهم، من أرمينيا وبلاد أخرى، يأتون إلى حلب كمحطة في مسيرة الحج إلى بيت المقدس في فلسطين، ويقيمون في خان “الهوكيدون” للاستراحة ومتابعة رحلتهم الدينية.

وتخبرنا المخطوطات والكتب الوثائقية والأزمنة وعلم الآثار والأركيولوجيا أن هذا الخان الصغير بني، عام 1540 ميلادية، بطابقين جميلين زاخرين باللغة الأرمينية المكتوبة منذ القرن السادس عشر، مزينين بنقوش وزخارف متفردة، تعكسها غرف الإقامة والأبواب والنوافذ والجدران، والمدخلين الذي يطل أحدهما على سوق التلل، ويتميز بزخارف الباروك والروكوكو، أما قوس هذا الباب فهو على شكل حدوة الفرس؛ وإذا ما دخلناه، سيأخذنا إلى فسحة غير مسقوفة تتوزع على جانبيها المحلات التجارية المختلفة البضائع، مثل الأقمشة والحقائب والألبسة والإكسسوارات، ثم يستقبلنا باب صغير لنجد أنفسنا في صحن الخان الذي ترتفع حواليه غرف الطابقين؛ وإذا ما خرجنا، فإننا نجد باباً ثانياً للخان يوصلنا إلى بوابة القصب.

من هذا المكان الاستراتيجي في حلب، ما زالت تفوح روائح الحكايات القديمة للقاطنين الذين كانوا هنا، وهم يتهيأون لرحلتهم إلى بلاد المقدس من أجل الحج، ويتزودون بما يلزمهم من مأكل وملبس ومشرب، ويبيعون ما أتوا به من بلادهم من صناعات يدوية فنية، ولوحات، وأقمشة، وأدوات مائدة مزخرفة بالرمان وثمرته، لأن أرمينيا تعتز بشجرتها الأكثر جلناراً، فتصنع من ثمرتها العصائر والمشروبات المختلفة، وتحتفل بها من خلال أدوات الزينة والفنون ومواضيع الحياة الأخرى.

 

حضارة مسؤولة

تتنوع الخانات الكلاسيكية التاريخية العريقة بحلب، وهي ما زالت تمارس حياتها اليومية المختلطة بحياة أهالي المدينة، رغم عمرها الممتد لمئات السنين، والذي تفوح منه رائحة ساكنيها القدماء، وآثارهم الباقية مع الآثار المعاصرة، مؤكدة على استمرار الحياة التجارية والاقتصادية والاجتماعية والدينية في هذه المعالم الإنسانية المحلية والعربية والعالمية، والتي تحتاج، بكل يقين، للاهتمام المناسب من الجهات المعنية، وتضافر جهودها مع الجهات الأخرى من أجل حماية هذه الخانات من الاندثار والانقراض بعد الحرب، ومن سوء الاستخدام الناتج عن جشع التجار الحاليين، وتوظيفهم لهذه المعالم بطريقة مشوهة للتاريخ والعراقة والحضارة، لأن هذه المعالم بحاجة إلى عقل مبصر يجعلها مراكز ثقافية وفنية وأثرية وسياحية ومتاحف معاصرة لذاكرة حلب القديمة التي تعتبر مدينة داخل مدينة، كما تعتبر مدينة نادرة بذاكرتها الشاملة.

ألا ترون معي أن الاهتمام بهذه الآثار، ومنها الخانات، حضارة مسؤولة، ومسؤولية حاضرة ومعاصرة تجاه حلب، وواجب حضاري وأخلاقي وثقافي وسياحي وفني لتستعيد ألقها مع ضمان الاستفادة منها كمورد سياحي معنوي ومادي؟