عقوبات السجن والغرامات لوحدها لا تكفي.. ما الآليات الفعالة لمنع المخالفات وضبط الأسواق والأسعار؟
“البعث الأسبوعية” ـ علي عبود
هل ستستقر الأسواق والأسعار وتختفي المخالفات والارتكابات الجسيمة، بعد صدور التعليمات التنفيذية للمرسوم التشريعي رقم 8 للعام 2021، أم ستبقى الأوضاع على حالها؟
نحن نميل بالأساس إلى الإجراءات التي تمنع وقوع الجريمة بدلاً من معاقبة مرتكبيها، فالمواطن يريد “أكل العنب لاقتل الناطور”؛ ولا نزال نتذكر جيداً مداخلة وزير داخلية سابق رداً على أعضاء في مجلس الشعب طالبوا بتشديد العقوبات على مخالفي قانون السير: “صدقوني، كلما زادت العقوبات زاد فساد العناصر المكلفين بتطبيق القانون”!
ونزيد على ذلك: ما من تاجر مخالف إلا ويُفسد المكلفين بمراقبته، وكلما زادت العقوبات زاد الفساد في صفوف المكلفين بتطبيق القوانين الناظمة للأسعار والأسواق. ولم يكن مستغربا ما نشرته صحفنا من آراء لمواطنين جزموا، من خلال تجارب السنوات الماضية، أن عناصر الرقابة سيستثمرون في تشديد العقوبات للتواطؤ مع المخالفين. ولو أن المسألة بكثرة الضبوط – التي تتباهى بها وزارة التجارة الداخلية في تقاريها الدورية – فلماذا لم تستقر الأسواق والأسعار، وتختفي المخالفات أو تنخفض، بدلاً من أن تزيد؟
نعم.. القوانين تكتسب فعاليتها، وتتمتع بتأثير مباشر، بوجود آليات فعالة تمنع المخالفات من الأساس بدلاً من مراقبة الفعاليات التجارية بانتظار ارتكابهم للمخالفات لمعاقبتهم. والقوانين الزاجرة التي تنص على عقوبات متشددة لردع المخالفين والفاسدين مهمة جداً، لكن لوحدها عير كافية، وينعدم تأثيرها مع مرور الزمن.. أليس هذا ما حدث مع الكثير من القوانين والقرارات والإجراءات على مدى العقود الماضية؟
السؤال الذي يجب أن يكون محور عمل الجهات المعنية بالأسواق والأسعار هو: هل الأولوية لمنع وقوع المحالفات أو لمعاقبة مرتكبيها؟
من المؤسف أن التركيز لا يزال على الزجر والردع والعقاب، بدلاً من تبني إجراءات تمنع وقوع الجريمة من الأساس، أي آليات فعالة لضبط الأسواق والأسعار بصورة جذرية ودائمة، كما يحصل في غالبية دول العالم مع محاسبة من يخالفها بأقسى وأشد العقوبات.
التركيز على العقوبات لا منعها
لقد لفتنا تأكيد وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك، طلال البرازي، خلال اجتماعه مع مدراء التجارة الداخلية في المحافظات تأكيده على أن “المرسوم التشريعي رقم 8 وضع لكي يطبق ولاسيما بأنه تضمن مواداً تحمّل المسؤولية لموظف التجارة الداخلية”؛ ولفتنا أيضاً تأكيده “أن المرسوم بكافة مواده يحمي المستهلك والتاجر والموظف وبنفس الوقت سيتعرض أي موظف بالمخبر أو الجهاز الرقابي للعقوبات التي يصل جزء منها إلى الجزائية في حال وجود ارتكابات او تجاوزات”.
ولفتنا أكثر تشديد الوزير على أنه “لن يكون هناك تساهل مع التجار والموردين الكبار، والهدف من المرسوم هو حماية المواطن من خلال عدم السماح بالتعدي على حقوقه في الحصول على سلعة جيدة خالية من الغش وبسعر معقول، ومن غير المسموح للمراقب التمويني الرضوخ للضغوط من أي جهة كانت، حيث لا يوجد أحد قادر على حماية الموظف من العقوبة والسجن بجرم الإهمال الوظيفي والتستر على مخالفة تموينية ومخالفة مرسوم تشريعي..”.
وكما لاحظنا، فإن وزارة التجارة الداخلية ستركز على الإجراءات الزجرية والردعية لضبط الأسعار والأسواق، لكنها لم تكشف عن مساعيها لتطبيق آليات فعالة تمنع التاجر والموظف من مخالفة المرسوم التشريعي، وكأنّ بإمكانها ضبط التواطؤ بين بعض موظفي الوزارة “غير المحصنين مادياً” وكبار التجار والموردين!
وبغض النظر عن نجاح الوزارة المفترض بتطبيق المرسوم التشريعي فإنها لم تجب على سؤال ملايين المواطنين: هل سنحصل على السلع الأساسية بأسعار تناسب دخلنا؟
الجواب بالنفي، طالما لن تطبق وزارة التجارة الآليات التي تلزم التاجر والمورد والمصنع المحلي بتسعير السلع وفق تكاليفها الحقيقية، مع هامش ربح مجز، ولن نقول قليل!
وبدلا من التهديد بعقوبات شديدة للمخالفات الجسيمة كتهريب المواد المدعومة من قبل الدولة مثل الدقيق والمحروقات، فإن على وزارة التجارة وغيرها من الجهات ابتكار آليات تمنع المتاجرة بها من قبل تجار مدعومين أو منخرطين في مافيات تهريب، كما أكد مسؤول في الوزارة منذ عدة سنوات.
قرارات عقابية
لقد سارعت وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك لإصدار مجموعة قرارات حددت بموجبها العقوبات والغرامات على المخالفات بموجب المرسوم التشريعي رقم 8 لعام 2021. وحدد القرار رقم 1087 الغرامات والعقوبات بحق كل من علق بيع مادة أو منتج أو سلعة على بيع مادة أو منتج أو سلعة أخرى ما لم تتضمن عرضاً تجارياً، أو في حال خالف القرارات والتعليمات الصادرة عن الوزارة وشروط التنزيلات والرخص السنوية.
وبموجب القرار 1089 تشكل لجان تحديد الأسعار في كل محافظة تضم عضو المكتب التنفيذي لمجلس المحافظة المختص ومدير التجارة الداخلية وحماية المستهلك وممثلاً عن وزارة الزراعة والإصلاح الزراعي وممثلاً عن غرف التجارة أو الصناعة أو الزراعة أو السياحة أو اتحاد الفلاحين أو اتحاد الحرفيين – حسب الحال – ورئيس دائرة الأسعار في مديرية التجارة الداخلية وحماية المستهلك.
وجميع هذه القرارات غير جديدة، وقد صدر مثلها في السنوات السابقة، والجديد فيها نها صدرت هذه المرة بموجب قانون ينص على عقوبات وغرامات كبيرة، فهل ستنجح وزارة التجارة هذه المرة بعد تجارب فاشلة على مدى أكثر من عقدين من الزمن على الأقل؟
المنافسة بدلاً من الاحتكار
لن نكتفي بالعموميات عند الحديث عن الآليات الفعالة لضبط الأسواق والأسعار التي تمنع المخالفات بدلاً من انتظار التجار والموردين لارتكابها لمعاقبتهم من جهة، وإلزامهم بتسعير السلع المستوردة والمصنعة محلياً وفق التكاليف الحقيقية لا الوهمية، من جهة أخرى.
وأهم هذه الآليات توفير المنافسة بدلاً من احتكار الأسواق والأسعار من قلة تتمتع بالنفوذ لدى صنّاع القرار في الأجهزة الإدارية الحكومية، وهي التي تضمن مصالح كبار التجار وحيتان المال. ولا نبالغ عندما نتحدث عن محتكرين وليس عن منافسين، فقد سبق لأعضاء في غرفة تجارة دمشق أن أكدوا أن قلة من التجار تتحكم باستيراد سلع أساسية، كما أن حجب مادة الزيت النباتي المصنع محلياً عن الأسواق لرفع أسعاره بنسب تجاوزت 300% أكد أن عدداً محدوداً من الصناعيين استغل منع استيراد المادة ليحتكر أسعارها وانسيابها في الأسواق.
ومثلما هناك قانون لمنع المخالفات والغش والتدليس، هناك قانون للمنافسة.. لكن باعتراف المعنيين فالمنافسة معدومة تماماً، ولو كانت موجودة لما كان هدد التجار بين الحين والآخر بمنع تزويد الأسواق بالسلع إن لم ترضخ وزارة التجارة لرفع أسعارها. وعندما ترتفع أسعار “الوجبات الشعبية”، كالفلافل والفول والبطاطا والشاورما، إلى مستويات تتجاوز القدرة الشرائية لملايين الأسر السورية، فنحن أمام مشكلة تسعير أكثر من مشكلة مخالفات تُحل بالغرامات والعقوبات.
ولا يمكن كسر الاحتكار إلا بتنسيق بين الوزارات المعنية: الاقتصاد والصناعة والتجارة.. إلخ.
ووزارة الإقتصاد لم تكن جادة حتى الآن بمنح إجازات استيراد للتجار مباشرة، لاعبر موظفين يعملون لديهم، ولم تكن جادة بمنح إجازات استيراد للمادة الواحدة لعدة تجار لا لتاجر واحد أو إثنين، والمشكلة أنها توحي من خلال قراراتها بأنها مهتمة بالاحتكار لا بالمنافسة.
كذلك وزارة الصناعة لم تكن جادة حتى الآن بالتنسيق مع هيئة الاستثمار بمنح تراخيص لتصنيع بدائل المستوردات بما يفيض عن حاجة سورية، بدلاً من منح تراخيص لقلة خططت منذ البداية لاحتكار السوق وضغطت لمنع استيراد البديل الأرخص.
ولم تكن وزارة الزراعة أفضل، فهي بعدم تضمين خططها لزراعة المحاصيل العلفية أتاحت لقلة من المستوردين احتكار تجارة الأعلاف، فانعدمت المنافسة وارتفعت معها الأسعار إلى حد خرجت فيه منتجات أساسية من موائد ملايين السوريين كالبيض والفروج والألبان ومشتقاتها.. إلخ.
أما وزارة التجارة الداخلية، فالمسؤولية عليها أكبر، فهي الأقدر على المنافسة من خلال صالاتها المنتشرة في جميع المحافظات، لكنها لم تنجح بكسر المنافسة لأنها قامت بتأجير صالاتها لمقربين ومتنفذين عملَ بعضهم أجيراً لدى كبار التجار، كما أنها لم تدخل في مجال تجارة الجملة، وتحديدا في أسواق الهال؛ وبدلاً من أن تنشغل بمراقبة كبار التجار والموردين انشغلت بصغار الباعة والمحلات، ما أفقدها السيطرة على الأسواق والأسعار لصالح قلة من المحتكرين.
لا مراقبة فعلية للمصدر الرئيسي
ومن الطبيعي ألا يهتم المواطن كثيراً بمعاقبة كبار التجار والموردين طالما أن الأسعار ستبقى محلقة أو أعلى بكثير من قدرته الشرائية، والمعادلة التي تطرحها الأسرة السورية صحيحة 100%: إما أن ترفع الحكومة دخلنا أو تخفض الأسعار بما يتناسب مع أجرنا!
وبما أنه لا قدرة للحكومة على مجاراة التجار برفع الأجور بما يتناسب مع الأسعار، فإن بمقدورها خفض الأسعار من خلال العنصر الثاني، وهو مراقبة المصدر بدلاً من مراقبة ملايين الباعة الصغار؛ والمسألة ليست معقدة على الإطلاق، فهناك ثلاثة مصادر رئيسية للسلع، هي أسواق الهال والمصانع ومنافذ الحدود التي تدخل منها المستوردات، وما تبقى ثانوي جداً.
والوزارات المسؤولة – هنا – هي وزارات المالية والصناعة والتجارة الداخلية، وبالتالي يفترض وجود لجنة تنسيقية بين الوزارات الثلاث مهمتها مراقبة المواصفات والتسعير، ومن المؤسف أن هذا الأمر مفقود تماماً.. فلماذا؟
لن نصدق أن وزارة التجارة الداخلية عاجزة عن مراقبة أسواق الهال، وبخاصة أن لديها مراكز دائمة في أهم هذه الأسواق. وليس مهماً أن تقوم الوزارة في مناسبة وأخرى بتنظيم ضبوط بالمخالفين، أي الرافضين لتداول الفواتير، فالأهم الآلية الفعالة والدائمة التي تمنع خروج “بضاعة” من أسواق الهال دون فاتورة، وفق نشرات الوزارة اليومية أو الدورية.
ثم ماذا يمنع وزارة التجارة من التعاقد السنوي مع المنتجين لشراء الخضار والفواكه، وطرحها من قبلها مباشرة في أسواق الهال؟
كما أن وزارة المالية لم تطبق حتى الآن آلية فعالة لانسياب السلع من المنافذ الحدودية، وفق بيانات جمركية تمنع دخول كميات كبيرة منها تهريباً، أو التنسيق مع وزارة التجارة لتسعير المستوردات وفق الكلف الواردة في بياناتها الجمركية، أي منع تداول أي سلعة غير مسعرة قبل خروجها من المستودعات.
ولا تقل مسؤولية وزارة الصناعة عن غيرها من الوزارات، فهي لا تطبق أي آلية بالتنسيق مع وزارة التجارة لتسعير السلع المصنعة محلياً في أرض المعمل، ومنع تداول أي سلعة لا تحمل شارة الجودة المطابقة للمواصفات السورية.
الفوترة والأتمتة
طبعاً، لا يمكن تسعير السلع والمنتجات – سواء المستوردة أو المصنعة – حسب تكاليفها الفعلية دون تطبيق الأتمتة والفوترة، ومن خلالهما ينعدم الاتصال المباشر بين الموظفين والتجار، وتنعدم معهما تقريباً المخالفات وحالات الفساد.
ولم تتمكن وزارتا المالية والتجارة الداخلية من تطبيق الأتمتة والفوترة بسبب الرضوخ لرغبة كبار التجار والمحتكرين الذين يرفضون بشدة تحرير الأسعار والأسواق من قبضتهم الفولاذية.
إن أتمتة عمل الجمارك تعني ضبط المستوردات، والفوترة المؤتمتة – لا الفواتير الورقية اليدوية التي تبشرنا بها وزارة التجارة الداخلية بين الحين والآخر – هي الكفيلة بضبط الأسعار والأسواق من جهة، ومنع التهرب الضريبي المقدر بمئات المليارات من جهة أخرى.
بالمختصر المفيد
وإذا لم تطبق الحكومة من خلال وزاراتها المعنية آليات فعالة تمنع المخالفات بدلاً من معاقبة مرتكبيها، وتضبط الأسواق والأسعار من خلال أتمتة الفواتير، وتزيد من وارداتها الضريبية بأتمتة أعمال وزارة المالية، بما يتيح تدخلها الإيجابي لصالح ملايين الأسر السورية.. فإننا لن نتوقع أي خفض للأسعار، بما يتناسب مع دخل الغالبية العظمى للسوريين.