الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

البنيوية العربية

ناظم مهنا 

خمدت جذوة البنيوية، ولا أحد يذكرها اليوم، لا في الشرق ولا في الغرب، كيف انتهى هذا التيار الذي سيطر على التفكير الأدبي لبضع عقود من الزمن؟! انطوت صفحة البنيوية في الغرب قبل انتهاء القرن الماضي، إلا أنها نهضت عندنا نحن العرب في الوقت نفسه الذي تمَّ فيه دفنها هناك، وتلقفها مثقفونا من نقاد وأساتذة جامعيين ورؤساء الصفحات الثقافية وكتّاب المتابعات في الإعلام العربي، كأنها كانت اكتشافاً سعيداً لـ “حجر الفلاسفة”؛ وفي عصر ازدهارها، لم يخلُ بحث أو كتاب أو حديث إلا وتكرّرت فيه كلمات: البنية، النسق، الدلالة، والمدلول.. حتى صارت هذه المفردات المكررة باردة. وظهرت كتب عديدة عن النظرية (السحرية) في العلوم الإنسانية، وارتفع إعلان “موت الإنسان” كـ: كوجيتو جديد لوّح به ميشيل فوكو! ثم انتشرت الدراسات “اللاإنسانوية” في كل مجالات وصنوف الأبحاث! وبين “البنائية” و”البنيوية” اختلف المثقفون العرب كالعادة في ترجمة المصطلح، ولم تكن المرة الأولى التي يقع فيها كبار الكتّاب العرب في “المطب الفرنسي”، ألم يحدث الأمر ذاته مع الوجودية السارترية والكاموية والهايدغرية؟! وكانت البنيوية، التي استندت إلى النظرية الألسنية للعالم اللغوي السويسري، دو سوسير، فرنسية الولادة والموت، ويا للمفارقة؛ فالمفكرون الفرنسيون أعلنوا ولادتها وهم ذاتهم أعلنوا موتها! لكن، إعلان الموت تأخر كثيراً ليصل أسماع أتباعهاعندنا، وأوقعهم هذا في مأزق معرفي، لم ينقذهم منه إلا النسيان.

كان يمكن للبنيوية أن تكون نظرية أدبية مقبولة كالنظريات الأدبية العالمية تسهم في إغناء الجدل، وفي إضاءة النصوص الأدبية، إلا أن الحماس الشديد جعل منها نظرية شمولية مطلقة تتحدث في كل شيء وعن كل شيء: القصة، الرواية، الشعر، الفلسفة، التاريخ، الاقتصاد، وعن الفرد والمجتمع والتحليل النفسي.. وجعل بعض منظريها من اللغة مُحرِّكاً لكلِّ شيء، والإنسان في نظرهم، مجرد بنية في نسق، أو أداة طيّعة تتصرف به اللغة كيفما تشاء! الإنسان يبدو في البنيوية أقلَّ قيمة من “الفونيم” الذي هو، على ما أذكر، أصغر علامة صوتية في علم اللسانيات! ابتذلت البنيوية كثيراً في الاستخدام الفوضوي والشائع، وتشظّت بعد أن انتشرت في الولايات المتحدة والعالم، وتحوّلت إلى ما يزيد عن ثلاثين طائفة ومذهباً وطريقة! وكان على مثقفينا المنبهرين بها أن يحمل كلٌّ منهم على كاهله هذه النظريات الفقهية الحديثة، بكل مسمياتها التي ينفي واحدها الآخر: البنيوي، وما بعد البنيوي، التفكيكي، وما بعد التفكيكي، التركيبي، الأركولوجي، الابستمولجي، والسيميائي، والتشريحي.. ويطول العدُّ، ولم يشهد تاريخ العقائد القديمة والحديثة انشطاراً كهذا! ولم يشهد تاريخ الأدب مرحلة أشدّ حيرة من هذه المرحلة التي كثُر فيها نقيق الضفادع واللغو وبهلوانيات المهرجين وألاعيب السحرة!.

لا يستطيع أحد أن ينكر قيمة الجدل الذي أثارته البنيوية ومشتقاتها، ومقدار إسهامها في إدخال مصطلحات جديدة، وفي إرساء الشك بالبديهيات وزعزعة اليقين، والأواصر التي أقامتها بين الأدب واللغة من جهة وبين اللغة والنظريات الاجتماعية والنفسية من جهة ثانية. إلا أنها مع ذلك، أخفقت في ملامسة مأساة الإنسان المعاصر كفرد وكجماعة، وتقدّمت منه باستعلاء وبروح تشاؤمية، وأعلنت موت الإنسان بمثابة شماتة وتشفٍ بتاريخه المرير، وأخرجته بصلافة من الفاعلية، واختزلته إلى مجرد بنية، وأحلّت اللغة مكانه في الفاعلية! ومثل النظريات الشمولية، حمّلها دعاتها أكثر مما تحتمل، ولم تطرح بديلاً واضحاً أو مقنعاً. ولذلك كانت فلسفة عابرة قصيرة العمر، رحلت دون أن تستحق رثاءً من أحد! وتركت أتباعها العرب وغير العرب كالأيتام بلا عزاء وبلا ندم.