الزراعة العضوية.. خطوات خجولة باتجاه الخروج من حلبة الزراعة التقليدية
يتمتّع المنتج الزراعي العضوي بميزات اقتصادية وتنافسية عدة بين المنتجات عموماً، حيث إن أسعار المنتج العضوي أعلى بـ 1 – 3 أضعاف المنتج المماثل التقليدي، إضافة إلى تمتعه بالسلامة الصحية للمستهلكين كونه ينتج وفق معايير دولية تضمن نوعيته وجودته وسلامته، كل ذلك أعطى منتجات الزراعة العضوية جواز سفر مفتوحاً لجميع أسواق العالم دون قيود وبميزة نسبية عالية تضمن الدخل العالي للمزارعين المنتجين وكامل سلسلة الإنتاج والتسويق.
وقطاع الزراعة العضوية هو أحد أهم قطاعات الإنتاج الواعدة في سورية، وذلك لما يوفره من فرص وإمكانيات كبيرة للتوسّع بهذا النمط من الزراعة، إضافة إلى أنه يعتبر حلاً للكثير من مشكلات الزراعة التكثيفية وتفتّت الحيازات الزراعية، ويلعب دوراً مهماً في التنمية الريفية من خلال المحافظة على القيمة المضافة والموارد الطبيعية ويحقق استدامتها ويسعى للمحافظة على البيئة، مما ينعكس إيجابياً على صحة الإنسان والحيوان والتربة والماء والهواء، لكن على الرغم من رجوح كفة الميزان لمصلحة هذه الزراعة في سورية، إلّا أن التخوّف مازال سيد موقف المعنيين، إذ مازالت خطوات هذه الزراعة في بلدنا خجولة ومثقلة بعقبات عدة تنتظر القليل من الجرأة والصبر لإعادتها إلى عرشها مجدداً.
منظومة متكاملة
بدأت تجربة التحضير لنشر الزراعة العضوية بشكل رسمي في سورية عام 2006 من خلال مشروع التعزيز المؤسّساتي للزراعة العضوية والذي نفّذته وزارة الزراعة بالتعاون مع منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة واستمر لنهاية عام 2012،
وأكد مازن المدني مدير مكتب الإنتاج العضوي في الوزارة لـ “البعث” أنه وبموجب صدور المرسوم التشريعي الخاص بالإنتاج العضوي في العام 2012 لاستكمال الجهود المبذولة في هذا المجال وإعطائها الإطار القانوني ولتسهيل العمل وضبط كل الجهات المتعاملة بالزراعة العضوية، تمّ إحداث مديرية مكتب الإنتاج العضوي لتكون الجهة الوطنية الحكومية المسؤولة عن هذا القطاع من خلال تنظيمه والتعاون مع كافة الجهات للوصول إلى منظومة عمل متكاملة تتيح الوصول إلى المنتج العضوي الوطني، وتمّ التوجّه لتأهيل الكوادر الفنية المختصة التي تعزّز ثقافة الزراعة العضوية في المجتمع وتنشرها بين الفئات المختلفة من (المستهلكين – المنتجين – المزارعين – مربي الماشية – المسوقين والمستثمرين.. وغيرهم)، كما تمّ تأسيس دوائر فرعية في جميع المحافظات، ورفدها بالكوادر وتجهيزها بالبنية التحتية المؤسساتية اللازمة، ودعمها بالمستلزمات والمعدات والآليات والتجهيزات اللازمة للعمل، إضافة إلى تدريب الفلاحين عملياً على الزراعة العضوية من خلال مدارس المزارعين العضوية المتوزعة بالمحافظات ولمختلف الأنواع النباتية وبشكل مترافق مع تنفيذ للأيام الحقلية المتنوعة ضمن الحقول الإرشادية العضوية (حيث بلغ عدد المدارس المنفذة لتاريخه 94 مدرسة).
جهود مثمرة
المدني أكد أنه ورغم الحصار الاقتصادي الذي أعاق التواصل مع الجهات العاملة بالزراعة العضوية، سواء جهات منح الشهادات أو الشركات المسوقة للإنتاج عالمياً، إلّا أن جهود مكتب الإنتاج العضوي أثمرت بالترخيص لإحدى جهات منح الشهادات العضوية الإيطالية في العام 2018 (CCPB) من خلال فرعها الإقليمي لمنطقة الشرق الأوسط (لبنان) -CCPB Middle East – التي بدأت على الفور باستقطاب الراغبين بالتحول للزراعة العضوية من المستثمرين والمشغلين المحليين، وأصبحت المنتجات العضوية تظهر في الأسواق المحلية وخاصة الخضراوات (خس – كرنب – بروكلي – جرجير – بندورة – بطاطا – فريز.. وغيرها)، إضافة إلى بعض مستخلصات النباتات الطبية والعطرية مثل (مستخلص الوردة الدمشقية واللافندر)، مشيراً إلى أن المساحات المزروعة تتزايد تدريجياً في العديد من المحافظات وخاصة اللاذقية وطرطوس وريف دمشق والسويداء، حيث بلغت المساحة المزروعة والمخططة العضوية للعام الحالي نحو 570 دونماً من الأشجار المثمرة، إضافة إلى مساحة 2378 دونماً من الخضار المكشوفة والمحمية والمحاصيل الحقلية والنباتات الطبية والعطرية متوزعة لدى خمسة منتجين “مشغلين عضويين” مسجلين.
نظام حيوي متوازن
ولعلّ الأسباب التي دفعت دول العالم للاتجاه نحو الزراعة الكيماوية كثيرة، أبرزها ضرورة زيادة الإنتاج في محاولة لتحقيق الأمن الغذائي ومواجهة التزايد السكاني، لكن ومع اكتشاف مخاطر هذه الزراعة على الصحة والتي بدأنا نلمس آثارها في ازدياد الإصابات بأمراض السرطان تعالت الصيحات المندّدة بها والمطالبة بتقليصها والعودة إلى الزراعة العضوية مهما كان الثمن، وخاصة في سورية التي تواجه اليوم تحديات جمّة في الواقع الزراعي، وتتطلّب التوسع بالزراعة العضوية حسب رأي سامر مهنا “مهندس زراعي”، مؤكداً أن الغرب يتجه اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى الغذاء العضوي لأنه صحي أكثر من المواد الغذائية الكيماوية، كما تعطي للزراعة العضوية الأهمية الكبرى في الحفاظ على البيئة والموارد الطبيعية من التلوث من خلال الاستعاضة عن الكيماويات المستخدمة بالزراعة التقليدية والإنتاج ببدائل آمنة صحية ذات منشأ طبيعي مايخفّض نسب التلوث في الغذاء وجميع مكونات البيئة من الماء والهواء والتربة إلى الحدّ الأدنى، وإنتاج غذاء صحي آمن خالٍ من المبيدات والكيمياويات والعناصر الضارة وخصوصاً العناصر الثقيلة (مثل الكادميوم والزئبق والرصاص..) التي تتسبب بالأمراض السرطانية والمزمنة الخطيرة، إضافة إلى تشجيع وجود نظام حيوي متوازن يشمل النباتات والحيوانات والكائنات الحية الدقيقة، واستخدام الموارد المتجدّدة (مياه- تربة) إلى أقصى درجة ممكنة في نظم الإنتاج المطبقة للحفاظ على استدامتها.
سلاح ذو حدين
مازالت الآراء تتعدّد إلى اليوم بين مؤيد ومعارض لهذه الأنواع من الزراعات، حيث أكد عبد الرحمن قرنفلة “خبير زراعي” وجود فئات متمسّكة بالزراعات الكيماوية تحت بنود عديدة، أهمها عدم وجود دراسات طبية تؤكد ارتباط هذه الزراعة بأمراض القلب والسرطان، ناهيك عن أن الزراعة الكيماوية أثبتت جدارتها في رفع الإنتاج والحفاظ على الأمن الغذائي لسنوات طويلة، وهذا لا يمكن إنكاره، لكن وبرأي قرنفلة أن المنتجات الزراعية العضوية أعلى في القيمة الغذائية، ففي دراسة للعديد من محاصيل الفاكهة والخضار لمقارنة القيمة الغذائية لكل من الأصناف المزروعة بالنظام التقليدي ومثيلتها المنتجة بالنظام العضوي، تبيّن أن الحاصلات المنتجة بالنظام العضوي احتوت كميات أعلى كثيراً من فيتامين “ج” والحديد والمغنسيوم والفوسفور مقارنة بمثيلتها المزروعة بالطرق التقليدية، كما أظهرت الدراسة أن الحاصلات المنتجة بالنظام العضوي احتوت كميات أقل وبدرجة معنوية من النترات، واعتبرت الدراسة أن أهم النتائج الحاصلة هي أن المنتجات العضوية فيها محتوى أعلى كثيراً من المعادن الغذائية المهمّة لتغذية الإنسان ومحتوى أقل بكثير من المعادن الثقيلة الضارة بصحة الإنسان مقارنة بتلك المنتجة بالطرق التقليدية، وأكد قرنفلة وجود العديد من الأنظمة الزراعية التي تسعى لتخفيض الكيماويات في المنتجات الزراعية لتكون تحت العتبة الضارة من بينها “الغلوبال وأنظمة الزراعة النظيفة..”، وهذه المنتجات تترافق بشهادة معتمدة تضمن جودتها وسلامتها، لكن تبقى المنتجات العضوية أكثر سلامة وأماناً.
دعم ممنهج
مدير الإنتاج العضوي لخّص خطة المديرية للمرحلة القادمة بالسعي لنشر ثقافة الإنتاج العضوي لكافة شرائح المجتمع، المنتجين أو المستهلكين وغيرهم من المهتمين، إضافة للاستمرار بتدريب الفنيين بشكل تخصّصي للوصول إلى “مرشد زراعي عضوي” متخصّص في تأسيس مزرعة عضوية، كما نسعى لتقديم دعم ذكيّ ممنهج للمزارعين الراغبين بالتحول للزراعة العضوية أو الأنظمة الزراعية الأخرى لتغطية نفقات الحصول على الشهادة والتكاليف الإضافية بالتنسيق مع الجهات الداعمة ذات الصلة، كما يتمّ إعداد مسودة لتشريع قانوني خاص بالزراعة التعاقدية وتأسيس الاتحادات النوعية المتخصّصة والتعاونيات الزراعية كونها أهم الحلقات لتطوير الإنتاج الوطني وتنظيمه.
ميس بركات