اعتراف متأخر وناقص.. ومنافق
أحمد حسن
لم يتوقف الكثيرون أمام الدلالات المتعدّدة، والمعاني الحقيقيّة غير المقصودة بالطبع، لقرار “وزارة الخزانة” الأمريكية منح “تراخيص جديدة وإرشادات تسمح ببعض الأنشطة المرتبطة بمكافحة فايروس كورونا، وتشمل التعامل مع دول تخضع للعقوبات الأميركية، وهي إيران وسورية وفنزويلا” بحسب النص الحرفي للخبر الوارد من واشنطن.
فهذا القرار هو اعتراف صريح وعلني وكامل -وإن كان موارباً ومخاتلاً- بالجريمة المرتكبة بحق هذه الدول وشعوبها من ناحية أولى، وهو، من ناحية ثانية، اعتراف صريح وعلني وكامل أيضاً، بصدقية الدول المحاصَرة التي كانت، ولا زالت، تتهم واشنطن بأن عقوباتها اللاشرعية تستهدف أيضاً، وأولاً، القطاعات الصحية والإنسانية وتحمّلها المسؤولية الكاملة عن مئات آلاف الأبرياء الذين سقطوا ضحايا هذا الحصار الجائر، وبالتالي، هذا القرار، من ناحية ثالثة، هو اعتراف آخر بكذب الإدارة الأميركية عندما كانت تنفي صحة ذلك وتتّهم حكومات هذه الدول بالتهرّب من مسؤولياتها أمام مواطنيها، كما أنه، من ناحية رابعة، دليل بيّن وساطع على “خسّة” بعض “أذناب” واشنطن في المنطقة والعالم، من “الثوار” و”مقاتلي الحرية” ودعاة حقوق الإنسان المزعومين، ممن كانوا يؤكدون “جازمين” أن العقوبات تستهدف الأنظمة لا الشعوب، ثم إنها، بحسب هؤلاء، لا تستهدف الغذاء والدواء وهو ما فضح كذبه ونفاقه قرار واشنطن الأخير.
بيد أن الأمر لا يقتصر على ما سبق من الدلائل والمعاني لأن القرار بحد ذاته ليس إلّا محاولة واضحة، وساذجة، لـ”تبييض” صفحة الإدارة الحالية من جرائم الإدارات السابقة عليها لا أكثر ولا أقل، فهو قرار إعلامي بالدرجة الأولى ولن تكون له انعكاسات ملموسة على أرض الواقع، لأسباب عدّة، منها لأنه، أولاً، قرار منافق لأنه يسمح بـ”بعض الأنشطة” في هذا المجال -بعض وليس كل- أي أنه ليس قرار رفع عقوبات كامل حتى عن هذا القطاع الصحي البالغ الأهمية في زمن الوباء العالمي القاتل للبشر وللاقتصاد والاجتماع معاً، ولأنه، ثانياً، قرار ناقص ومبتور فالسماح بـ”بعض” الأنشطة في مجال ما يحتاج، كي يكون فعّالاً ومنتجاً، إلى قرارات مشابهة موازية، لكنها شاملة، في قطاعات أخرى وأهمها تلك التي تحرّر المصارف العالمية من خوفها المزمن من تبعات أي تعامل مع مصارف البلدان الثلاثة المعنية في ظل عقوبات أمريكية جائرة بحق كل من يتعامل معها، ولأنه، ثالثاً، قرار متأخر جداً فالمأساة حلّت في هذه الدول الثلاثة دون أن تكون قادرة على المواجهة بالصورة المطلوبة بسبب الحصار الأمريكي الجائر الذي تركها عاجزة وترك مواطنيها ضحايا عزّل أمام وباء عالمي هزم دول كبرى بينها بلاد العم سام ذاتها.
والحال فإن التجارب السابقة علّمتنا، وغيرنا من شعوب العالم، أن واشنطن لا تتراجع عن قرار إلا لـ”تغطي” على آخر، أما إذا أرادت، فعلياً، أن تثبت عكس ذلك وتنظف سجلها الشائن في هذا المجال فعليها، أولاً، تكملة القرار الحالي بالإقرار بمسؤوليتها المباشرة عن المرحلة الماضية من الموت الذي تسبّب به هذا الحصار الطبي والدوائي في زمن الوباء القاتل هذا، وعليها، ثانياً، المبادرة إلى رفع كافة أنواع العقوبات الاقتصادية الجائرة، واللاشرعية بالأصل، التي تشكّل مع بعضها رزمة متكاملة ومترابطة من حيث الإجراءات والآثار والنتائج، حتى يكون لهذا القرار، وغيره، فعالية حقيقية على أرض الواقع، أما غير ذلك ليس إلا محاولة مفضوحة لنيل براءة مزيفة من جريمة علنية ومتمادية ومستمرة يرتكبها الساكن في “البيت الأسود” بحق دول وشعوب ذنبها الوحيد أنها حلمت بقرار وطني مستقل في عصر شرعة الأمم المتحدة والقانون الدولي وحق تقرير المصير وحقوق الإنسان المزعومة.