توفيق أحمد.. شاعر المدى والندى
تتابعُ سلسلة “نوافذ” بإطلالتها الشهرية التي اعتادت عقدَها في مجمّع دمّر الثقافي تسليط الضوء على تجارب رموزنا الإبداعية انطلاقاً من إيمان المشرف عليها الإعلامي إدريس مراد بضرورة العمل والبحث عن كل منتَج فنيّ وثقافي وفكري لإلقاء الضوء عليه، وهو واجب على المؤسسات والأفراد تجاه المبدع. من هنا احتفت “نوافذ” في جلستها الرابعة بالشاعر توفيق أحمد الذي يُعدّ من أهم شعراء الحداثة الشعرية ومن المجدّدين في الصورة الشعرية، وشارك في الجلسة الأساتذة: ناظم مهنا، صالح هواري، عبد النور هنداوي.
صنعة فائقة
وصف الشاعر صالح هواري توفيق أحمد بأنه شاعر المدى والندى، مشيراً إلى أنه بدأ شاعراً غنائياً، ولشدة شغفه بالتجديد جنح إلى التجريب، فكسر نمطية القصيدة التقليدية نافضاً عنها ترسباتها العالقة بها، مؤكداً أن محاولته ارتياد آفاق قصيدة التفعيلة كانت موفقة، ويبدو ذلك من خلال تعامله مع اللغة الشعرية تعاملاً عصرياً تفوح منه نكهةُ الحداثة، وهو الذي لم يقف عند نمطٍ شعريّ واحد لينهل منه، بل استطاع أن يدخل منطقة القصيدة النثرية بنَهمٍ شعري خلّاق، واثقاً أن الشكل التعبيري للقصيدة ليس مهماً بقدر ما هو في جوهرها ومضمونها، لذا اندفع إلى قصيدة النثر اندفاعاً واعياً مسلحاً بأدوات تعبيرية تليق بالنص الذي يكتبه. وأشار هواري إلى مقومات البناء الفني للقصيدة التي يكتبها أحمد، فعلى صعيد الصورة وجد أنه تعاطى مع شكلين من أشكالها: التقليدية والتركيبية التي وردت في نصوصه النثرية، وقد استطاع من خلالها أن يتحرك في فضائه التعبيري بحرية ودون قيد لتدلّ على أن الشاعر صاحب صنعة فائقة، إلى جانب لجوء أحمد إلى التضاد دون قصد ليثير التساؤل لدى القارئ، فيقتنع به لشدة انبهاره، وكذلك قدرته على البعد عن الترف اللغوي حيث مفرداته وعباراته الشعرية موظفة توظيفاً إنسانياً وحياتياً وهي تشكيلات تعبيرية تكمن وراءها الدلالات والإشارات التي تدحض نظرية الفن للفن وتجسد مقولة الأدب المُلتزم الهادف، وكل ذلك – برأي هواري – بانسيابية تعبيرية عذبة متدفقة، وهذا برأيه يعود إلى شاعريته وحرصه على تجاوز المعاني العادية لخلق معانٍ تتوالد، ولم ينكر هواري أن أحمد يميل كثيراً إلى استخدام الرموز التي تتراوح بين الشفيفة الواضحة والغائمة أحياناً حسب الحالة الشعرية التي يمرّ بها.
قراءة أنطولوجية
وبيَّن القاصّ ناظم مهنا صاحب كتاب “أنطولوجيا فلسفية” أنه اختار قصيدة “نبع السن” كنموذج للقراءة الأنطولوجية التي تُعنى بالمعنى ولا تفصل بين الشكل والمحتوى، وعدّها مهنا من أرومة الكلاسيكية الجديدة المشحونة بالمعاني والصور والتراكيب التي تجعلها تتجاوز حدود الكلاسيكية، مشيراً إلى أنها قريبة من الرمزية والرومانتيكية والواقعية لأنها تخاطب نبعاً معروفاً، حيث تبدأ القصيدة بمخاطبة أغزر الينابيع وأقصر الأنهار في الأراضي السورية، وتمضي قصيدته منسابة كمجرى النهر يلمح فيها أحمد ببراعة، فالشعر تلميحٌ وتصريح إلى مسائل يختلف عليها الناس، ولكن يبقى الحب الذي يوحّد العالمَ هو الجوهر في خطابه حيث يرى العالم موحداً متكاملاً، والشر هو العارض الزائد مهما بدا حاضراً ومتسيّداً، موضحاً أن الشاعر يخاطب النبعَ باسمه الصريح الأسطوري “السن” ويتبادل معه ومع العالم شجونه وأحزانه وهمومه ضمن تناغم متكامل ما بين التكوين اللغوي وحركة الإيقاع في الطبيعة، موظفاً فيها الشاعر أحمد كلّ الأدوات الشعرية دون تنافر بين إحساس الشاعر وإحساس النبع، حيث اللغة والإيقاع الشعري في هذه القصيدة يقيمان التوازن بين الأنا والخارج، وهذا ما تحقّقه الغنائية الحاضرة في القصيدة برأي مهنا، فالنبع مثلُ الشاعر يعاني من الجحود والنكران وسوء النية، وإحساس الشاعر بالنهر يعني إحساسه بالعالم. وختم مهنا كلامه بالإشارة إلى أن هذه القصيدة ليست فريدة في قصائد توفيق أحمد، ففي أعماله الشعرية قصائد تفوقها روعةً، واختياره لها نابع من نموذجيتها في استحضار الحركية المتجلية في العلاقة بين الذات والموضوع، بين الخاص والعام، مؤكداً أن تجربة الشاعر أحمد المتكاملة جديرة بأن تضعه في الصفوف الأمامية في خارطة الشعر العربي المُعاصر، وأن أعماله الشعرية تحتاج إلى قراءة وتذوق وتفاعل من القرّاء والنقّاد.
جاء إلى الحياة شاعراً
أما الشاعر عبد النور هنداوي فقد رأى أن الشعر عند توفيق أحمد صفقة هائلة مع الزمن، وهو ممن جعلوا الشعر يتدلّى من الهواء والأساطير، فهو يجيد استعمال فمه وأصابع يديه في الحديث مع القصيدة، وهو بارعٌ في فتح ثغرات إضافية في الجسم الذي شاهده، وأيضاً في السكاكين التي تكتبُ مذكراتها وهي تقطرُ الدم، وهو يصرُّ في قصائده على صنع أرواح للحجارة، مشيراً إلى أن أحمد الشاعر يجد نفسه في الأشجار أكثر مما يجد نفسه في الهواء أو في المرايا، ويحاول جاهداً أن يجعل الدم قليلاً في الوطن مع أنه لا يستطيع إلا أن يظل طفلاً كقصيدته، فهو يلعب في أعماله الشعرية بالزمن ليعيد تشكيله بعيداً عن الأصوات الممزقة، فالشعر هو المكان الوحيد الذي سقط سهواً من التاريخ ليستقر بين يديه في قصيدته بعد أن أعادت أصابعه الشفافة الحياة إلى مكانها الطبيعي، مبيناً أن أحمد يؤكد من خلال قصيدته أن الذين يقرأون جيداً يستطيعون أن يلاحظوا كيف أنه يتلوى بين الكلمات، ويخيل لهنداوي أن أحمد لا يتخلى عن ثياب الميدان أثناء الكتابة وهو يقلب صوره الشعرية كما يقلب الهذيان، لأن الحياة من دون شعر يمكن أن تكون دخيلة على التاريخ. وأكد أن لدى الشاعر الكثير من المعرفة على مستوى الرمز وأن صناعة القصيدة عنده تشعرنا أن قلبه هو ذاته القصيدة، وأن موضوع النص لديه يتبدّد شيئاً فشيئاً لتكون قصيدته خطرة موضوعياً لكنها حقيقة ذاتية لا تقبل المساومة. وختم هنداوي مشاركته بالتأكيد على أن أحمد في أعماله الشعرية كتب لنا إرثاً كبيراً لأنه جاء إلى الحياة شاعراً.
يكتب الشعر لنفسه
كما حضر الجلسة الملحن أمين الخياط الذي أشار إلى أنه لحن قصيدة واحدة للشاعر توفيق أحمد وغناها خلدون حناوي، مشيراً إلى أن أحمد لم يرغب بتلحين قصائده وقد ظلم نفسه بذلك، وموافقته على تلحين إحدى قصائده لم يتمّ بسهولة لعدم رغبة أحمد بأن تغنى نصوصه الشعرية وتسجّل وكان بإمكانه أن يفعل ذلك بسهولة عندما كان مديراً للتلفزيون ولكنه لم يفعل، ويبدو – برأي الخياط – أن أحمد يكتب الشعر لنفسه لا من أجل أن يغنى وهو مقتنع كشاعر ومكتفٍ بذلك.
أمينة عباس