اللوبي الإسرائيلي في واشنطن يزيّف الحقائق ويتلطى وراء مزاعم “معاداة السامية”
عناية ناصر
في أعقاب عدوان همجي شنّته قوات الاحتلال على قطاع غزة المحاصر، واستمر 11 يوماً، واستشهد خلاله أكثر من 220 مدنياً، من بينهم أكثر من 65 طفلاً، قامت جماعات الضغط الإسرائيلية في الولايات المتحدة وكندا بإطلاق حملة علاقات عامة منسّقة لمواجهة غضب الشارع الأمريكي والكندي على جرائم “إسرائيل” في غزة.
صوّرت جماعات الضغط الإسرائيلية، بقيادة ما يُسمّى رابطة مكافحة التشهير “ADL“، سلسلة من المشاجرات في الشوارع بين مؤيدي فلسطين ونشطاء داعمين للكيان الصهيوني على أنها أعمال عنف معادية لليهود، رغم أنه لا يوجد دليل لإثبات الادعاءات بأن اليهود كانوا مستهدفين كيهود في المواجهات. مقابل ذلك، هناك أدلة كافية على الخداع، حيث تكشف أدلة الفيديو والصور الفوتوغرافية عن عناصر مؤيدة للكيان الصهيوني تستفز المتظاهرين وتبدأ العنف وتزوّر شهادات أدلى بها المتظاهرون.
الجميع، من الرئيس جوزيف بايدن إلى أعضاء “فرقة” الكونغرس “التقدّمية”، أعاروا أصواتهم لجوقة الإدانة. في هذه الأثناء، نشر المؤثرون المشاهير مربعات زرقاء على حساباتهم على “انستغرام” لترمز إلى “التضامن” مع الجالية اليهودية الأمريكية التي يزعم أنها تتعرّض للضغط.
وفي وقت اعتقلت شرطة الاحتلال مئات الشباب الفلسطينيين من عرب 48 لمشاركتهم في الاحتجاجات ضد سلب المستوطنين فلسطينيي القدس ممتلكاتهم، بدأت إدارة شرطة نيويورك بفعل الشيء نفسه، واعتقلت الشباب الأمريكيين الفلسطينيين، وسجنهم والتحقيق معهم بسبب ما سمّته “جرائم الكراهية” وتورطهم في مشاجرات مسجّلة بالفيديو مع المتظاهرين المؤيدين لـ”إسرائيل”. ولكن، وفي العديد من القضايا البارزة، تتناقض أدلة الفيديو والصور الفوتوغرافية التي دققها موقع “ذا غراي زون” مع الادّعاءات التي قدمتها الجهات الموالية لـ”إسرائيل” وتكشف أن قصص العديد من المتهمين خادعة للغاية، إن لم تكن مغلوطة تماماً.
القلنسوة غير المرئية!
أصبح حادث 19 أيار، في وسط مدينة نيويورك، محور الرواية التي يردّدها مؤيدون لـ”إسرائيل” عن أعمال عنف فلسطينية تستهدف اليهود في جميع أنحاء أمريكا. وبحسب الرواية الرسمية، قامت مجموعة من الشباب الفلسطينيين بمطاردة وتعنيف رجل يهودي وحيد، جوزيف بورغن، وهو في طريقه إلى تجمع قريب مؤيد للكيان الصهيوني، لمجرد ارتدائه قلنسوة يهودية!.
سرعان ما شجب حاكم نيويورك أندرو كومو الحادثة المزعومة، باعتبارها “جريمة كراهية معادية للسامية”، كما شاركه النائب جمال بومان من نيويورك، وهو عضو في “فرقة” الكونغرس التقدمية، في تصوير الحادث على أنه مثال على “الكراهية المعادية للسامية”.
تمّ تصوير المشاجرة وتداعياتها على شريط فيديو من قبل أحد المارة، ومع ذلك لم تعرض شبكة “سي. إن. إن” سوى جزء قصير يظهر العديد من الرجال وهم يضربون بورغن. يظهر الفيديو الكامل والصور التي تمّ التقاطها بعد المشاجرة مباشرة أن بورغن كان يرتدي بلوزة رمادية ذات قلنسوة– ولا يرتدي قلنسوة. ولم تظهر صور الفيديو أنه كان يرتدي القلنسوة اليهودية، يبدو أن بورغن قد ضلّل وسائل الإعلام لخلق الانطباع بأنه تمّ استهدافه لمجرد كونه يهودياً.
بعد لحظات من الحادث، اعتقلت شرطة نيويورك شاباً فلسطينياً يبلغ من العمر 23 عاماً يُدعى وسيم عواودة، واتهمته باعتداء من الدرجة الثانية كـ”جريمة كراهية”، ومحاولة اعتداء جماعي من الدرجة الأولى. عواودة، الذي تمّ تصويره وهو يضرب بورغن بعكاز، كان يُعالج من إصابة، ويبدو أنه كان أسهل شخص في الموقع للشرطة للقبض عليه.
تلقى موقع “ذا غراي زون” شهادات متطابقة أكدت جميعها أن العديد من المتظاهرين المؤيدين لـ”إسرائيل” هاجموا العواودة، الذي أصيب في ساقه، مما أدى إلى الردّ العنيف الذي تمّ تصويره بالفيديو، فيما أفاد موقع “NY1″، وهو منفذ إخباري محلي في مدينة نيويورك، أن “الاشتباكات (في وسط المدينة) بدأت بعد أن ألقى عدة أشخاص زجاجات مياه وعصير من النافذة على المتظاهرين المؤيدين للفلسطينيين، بعدها بدأ الطرفان في قتال بعضهما البعض”.
تتناسب هذه النسخة من الأحداث مع نمط يستفز فيه المتعاطفون مع “إسرائيل” المتظاهرين الفلسطينيين، بل ويبدؤون العنف، ثم يضلّلون وسائل الإعلام بشأن ظروف الاشتباك، مصورين أنفسهم على أنهم ضحايا لا ذنب لهم لـ”جرائم الكراهية المعادية للسامية”.
في 19 أيار، ادّعى إسرائيليان، سنير ديان وأميت سكورنيك، أن حشداً من المتظاهرين الأمريكيين الفلسطينيين اعتدوا عليهما في وسط مدينة نيويورك في ما وصفوه بأنه “هجوم لا سامي”.
ومع ذلك، يظهر مقطع فيديو للحادث دايان وهو يقوم بأول لكمة. ولم يتضح ما إذا كان هناك تبادل ضربات قبل بدء التسجيل. بعد أن تدخل ضباط شرطة نيويورك لفض الشجار، وقاموا بتقييد دايان وسحبه إلى عربة شرطة بينما كان يضايق المتظاهرين بهتافات إسرائيلية. ثم قُبض عليه لأنه هو من بدأ أعمال العنف. واتضح بعدها أن كلاً من دايان وسكورنيك كانا جنديين إسرائيليين في لواء غولاني، وهو فرقة شاركت في العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، عام 2014، والذي أدى لاستشهاد 551 طفلاً فلسطينياً.
علاوة على ذلك، حاول سكورنيك إشعال قتال الشوارع لجمع الأموال لزملائه من جنود لواء غولاني. على صفحته على الفيس بوك، نشر صوراً لنفسه ودايان وهو يلكم بفخر المتظاهرين المؤيدين للفلسطينيين.
وبالعودة إلى الكيان الصهيوني، حوّلت وسائل الإعلام الإسرائيلية الضحيتين المزعومتين إلى بطلين، وتحدّثت علانية عن توجيههما اللكمات إلى المتظاهرين المؤيدين لفلسطين في شوارع نيويورك. تمّ إغراق منشور على الفيس بوك يروّج لظهور سكورنيك ودايان على القناة 13 الإسرائيلية بتعليقات داعمة معادية للعرب.
وفي كندا أيضاً..
وفي كندا يُظهر مقطع الفيديو، الذي تمّ تعديله بشكل مخادع، نشطاء متضامنين مع فلسطين يهاجمون مؤيدين لـ”إسرائيل” في تورنتو، إذ أظهر شباناً من العرب الكنديين يضربون رجلاً أشيب الشعر مؤيداً للكيان الصهيوني بعصا خشبية. وتبع دوغ فورد، رئيس وزراء أوتاوا، وعمدة تورنتو جون توري، قيادة اللوبي الكندي الإسرائيلي في إدانة ما جرى على الفور باعتباره “جريمة كراهية”.
ومع ذلك، كشف مقطع فيديو أكثر اكتمالاً عن الحادث أن مؤيدي “إسرائيل” بدؤوا العنف ضد المتضامنين مع فلسطين الذين كانوا يحاولون التراجع. وأن العديد من الغوغاء الموالين للكيان هم أعضاء في “رابطة الدفاع اليهودية”، وهي منظمة مسؤولة عن العديد من الاعتداءات الوحشية والاغتيالات التي تعرّض لها الأمريكيون الفلسطينيون، وكانوا مسلحين في ذلك الوقت بالسكاكين ومضارب البيسبول.
مقاطع الفيديو المزيفة
إن مقاطع الفيديو التي تمّ تعديلها بشكل مخادع، وفبركتها بطريقة غير شريفة، والتي تدعم رواية “معاداة السامية”، تكاد تكون عديدة للغاية، بحيث يتعذّر تتبعها. ومع ذلك، فإن مقطعي فيديو يزعمان أنهما يظهران عنفاً ضد اليهود يستحقان التدقيق بهما.
نشر موقع بريتبارت، الذي أسّسه أندرو بريتبارت بعد لقاء مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، مقطع فيديو بعنوان: (في مظاهرة مؤيدة للفلسطينيين في واشنطن العاصمة، هاجم عدة متظاهرين محتجاً مؤيداً لـ”اسرائيل”).
وعلى الرغم من أن الفيديو يظهر متظاهرين مؤيدين للفلسطينيين وهم يدفعون رجلاً، إلا أنه لم يكن “محتجاً مؤيداً لـ”إسرائيل”. قال رامسي أبوردين، وهو أمريكي فلسطيني ولد في واشنطن العاصمة، إنه اتهم زوراً من قبل المحتج بتخريب الشارع بالقرب من السفارة الإسرائيلية في شمال غرب العاصمة، وتمّ دفعه للحظة من قبل المتظاهرين الذين أنكروا ادّعاء مؤيدي “إسرائيل”، وأضاف: “لقد كان مجرد موقف خرج بسرعة عن السيطرة لأن فرداً واحداً كان مصمّماً على تصعيد الموقف. كان كل المعنيين يعتذرون لي وكانوا محرجين للغاية من الموقف”.
أثارت لقطات لحادث آخر في غرب لوس أنجلوس غضباً وإدانات من السياسيين، بما في ذلك عمدة لوس أنجلوس إريك غارسيتي، الذي انتقد ما سمّاه “هجوماً منظماً معادياً للسامية”. وبحسب التغطية الإعلامية للحادث، بدأت قافلة من سائقي السيارات المؤيدين للفلسطينيين في موكب في شارع “لا سيينيغا” في مهاجمة رواد المطاعم اليهود.. كانت “جريمة كراهية”!!. لقد تمّ إعدادهم، لقد جاؤوا لمقاتلة اليهود، هكذا زعم صاحب المطعم غير اليهودي لشبكة “سي بي إس”.
على الرغم من اندلاع الاشتباك بين رواد المطعم وأعضاء القافلة المؤيدة لفلسطين، إلا أنه لم يثبت أنه تمّ استهداف شخص في المطعم على أساس دينه أو عرقه. في الواقع، كان الشخص الوحيد الذي طلب العلاج الطبي بعد الشجار هو رجل غير يهودي.
في مثل الأحداث البارزة الأخرى التي تمّ تسجيلها بالفيديو، يبدو أن الدافع وراء العنف هو الصراع السياسي، وليس العداء العرقي والديني. في الواقع، وعلى الرغم من ادعاءات الشهود، لا يوجد دليل يذكر لإثبات أن أي شخص في مطعم السوشي قد تمّ استهدافه لمجرد كونه يهودياً. ومع ذلك، تحقق شرطة لوس أنجلوس في الحادث باعتباره “جريمة كراهية” محتملة.
رابطة مكافحة التشهير.. تزييف وادعاءات مزعومة!
في طليعة رواية اللوبي الإسرائيلي التي تدّعي حدوث أزمة على الصعيد الوطني نتيجة ما يسمّونه “العنف المعادي للسامية”، تقف رابطة مكافحة التشهير، التي تمثل قوة طاغية للعلاقات العامة، وتتعاون مع بارونات التكنولوجيا في وادي السيليكون ووسائل الإعلام المؤسسيّة والمؤثرين المشاهير، والتي هي قوة ضغط إسرائيلية.
كان جوناثان غرينبلات، الرئيس التنفيذي لشركة ADL، وبائع المياه المعبأة السابق، عنصراً أساسياً في شبكة “سي إن إن”، والشبكات الأخرى، في فبركة حملات “معاداة السامية” المزعومة.
وخلال مقابلة في 20 أيار مع شبكة “سي إن إن”، زعم غرينبلات أن هناك تقريراً عن “مرور سيارات عبر أحياء يهودية في لوس أنجلوس وهي ترمي زجاجات على منازل كانت هناك إشارات يهودية على أبوابها”، لكنه لم يقدّم أي دليل على هذا الادعاء، ولم يطلب مضيفه شيئاً. كما روّجت رابطة مكافحة التشهير لتقرير مشكوك المصدر بعنوان “مستوى التزايد في الحوادث المعادية للسامية المرتبطة بالعنف الأخير في الشرق الأوسط”. ويزعم التقرير وقوع 193 “حادثة معادية للسامية” في غضون أسبوع.
في فيلمه الوثائقي لعام 2009، حول استغلال معاداة السامية والتشهير، كشف المخرج الإسرائيلي يوآف شامير عن المنهجية المثيرة للسخرية التي استخدمتها رابطة مكافحة التشهير لتوثيق الحوادث التي يُفترض أنها معادية للسامية.
وعلى الرغم من السجل الراسخ لرابطة مكافحة التشهير وخلطها الدعائي بين نشاط التضامن مع فلسطين ومعاداة السامية، تلقى تقريرها الأخير دعماً ترويجياً من اتحاد كرة السلة، ومن ساشا بارون كوهين، الممثل الكوميدي اليهودي البريطاني المعروف بوصفه للعرب بأنهم بدائيون وبربريون ومعادون للسامية (تمت مقاضاة بارون كوهين، في عام 2009، من قبل ناشط سلام فلسطيني مسيحي صوره كذباً في فيلمه، برونو، كإرهابي متحالف مع أسامة بن لادن).
تضامن كوربين مع فلسطين
إن فبركة اللوبي الأمريكي الإسرائيلي الساخر لموجة من معاداة السامية، في أعقاب ازدياد التضامن مع فلسطين، يشبه إلى حدّ بعيد الحملة التي شنّها نظراؤه السياسيون عبر المحيط الأطلسي لإزاحة جيريمي كوربين عن زعامة حزب العمال البريطاني؛ فعلى الرغم من أن كوربين ناشط مخضرم مناهض للعنصرية، قام اللوبي البريطاني الإسرائيلي والسفارة الإسرائيلية في لندن بجهود منسقة باتهامه وأنصاره التقدميين في حزب العمل على أنهم معادون للسامية.
في النهاية، تمّ طرد مؤيدي حقوق الفلسطينيين من حزب العمل بأعداد كبيرة، وتمّ استبدال كوربين بالسير كير ستارمر، المعروف بتعاطفه القوي مع الصهيونية. وأعلن أحد أعضاء اللوبي البريطاني الإسرائيلي البارزين عن “قتل الوحش”، في إشارة إلى إقصاء كوربين، متفاخراً بالقول: “لقد تمّ ذلك بفضل جواسيسنا واستخباراتنا”.
لقد ساعد اللوبي الإسرائيلي في صرف انتباه وسائل الإعلام الأمريكية عن قصف “إسرائيل” المتعمّد للأبراج المدنية، وإبادة عائلات بأكملها في غزة، والمذابح التي شنّها الصهاينة ضد الفلسطينيين، واعتقال قوات الاحتلال المستمر للفلسطينيين. في المقابل، صوّرت الجالية اليهودية الأمريكية، التي تنعم بالثراء والامتيازات، على أنها ضحية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.