“بين عصرين.. في الجغرافية وأدب الرحلة نحن والآخر”
أدب الرحلة من الفنون النثرية القديمة التي عُني بها الكثيرون، فقد كانت وسيلة التعرف إلى مواطن البشر واختلاف ثقافاتهم وأساليب حياتهم والحضارات التي ينحدرون منها وينتمون إليها، ولأن أدب الرِحلة مازال مثار اهتمام لدى الكثير من الدارسين والباحثين على مرِّ العصور، ومن مختلف المُنطلقات الجغرافية والأدبيّة وقاربوه بأساليب نقدية متنوعة يأتي كتاب “بين عصرين.. في الجغرافية وأدب الرحلة نحن والآخر” للكاتب والباحث قاسم وهب، منشورات وزارة الثقافة- الهيئة العامة السورية للكتاب.
يحتوي الكتاب مجموعة من البحوث في الأدب الجغرافي وأدب الرحلة، الهدف منها قراءة الآخر المختلف انطلاقاً من موقفين اثنين. أولهما: قراءته بعين القوي المسيطر الذي يطمح إلى التوسّع والامتداد، أما الثاني: فيقرأ الآخر من موقف المتطلع إلى الخروج من ربقة التخلف والركود والشلل الحضاري المزمن وشتان ما بين الموقفين.
آفاق الثقافة
يتمثّل الموقف الأول فيما كتبه الجغرافيون والرحالون الأوائل عن البلدان التابعة لدار الإسلام والبلدان الأخرى المتاخمة لها أو البعيدة عنها وهو شأن الأمم إبان نهوضها، وهذا ما نلمسه في مدوّنات الجغرافيين والرحالين الأوائل من أمثال: ابن الفقيه، واليعقوبي، وابن حوقل، وصولاً إلى المسعودي الرحالة والعالم الموسوعي الذي لم يكن إماماً للمؤرخين يرجعون إليه فحسب، بل عدّه بعض الباحثين المعاصرين أكثر الجغرافيين أصالة في القرن العاشر الميلادي إلى جانب إحاطته بكل التراث الأدبي لعصره، لذا آثر الكاتب أن يصدر هذا الكتاب بآفاق الثقافة العربية الإسلامية في القرن الرابع الهجري، متجلية بآثار المسعودي ثم يليه الحديث عن أخبار الصين والهند وما جاورهما من البلدان، كما رواها وحققها المغامرون الأوائل من البحارة والتجار العرب الذين ارتادوا تلك الأصقاع النائية وسجلوا مشاهداتهم وانطباعاتهم عنها.
ومن الموضوعات المهمّة التي تطرق إليها الكتاب تتبع المحاولات العربية الأولى لمعرفة الجارين اللدودين بيزنطة ورومية اللذين وقفا سداً منيعاً في وجه التوسع العربي الإسلامي في الجغرافية الأوروبية، ثم تلاه ما كتبه الجغرافيون الأوائل عن بلاد النوبة والبجه التي اصطلح على تسميتها فيما بعد السودان.
قيمة تاريخية
أما البحوث المتعلقة بالموقف الثاني المتطلع إلى الخروج من ربقة التخلف والركود، فتتمثل في تلك النصوص الرحلية المبكرة التي حاول أصحابها تتبع ملامح النهضة الأوربية الحديثة بغية استلهامها واقتفاء أثرها ومحاولة الأخذ بالمناسب منها، ومن أقدم هذه النصوص رحلة الأمير فخر الدين معني الثاني إلى أوربا في أوائل القرن السابع عشر الميلادي (1613-1618م) التي تعدّ من أقدم المدونات العربية التي وصفت مدينة أوروبا في عصر النهضة، لذا فضّل الباحث أن يضع هذه المعلومات بين يدي القارئ ليكون شريكاً في الحكم على قيمتها التاريخية، مع العلم أن فخر الدين حاول بعد عودته الأخذ بالتجربة الأوربية بأكثر في مجال، ولكن محاولته خنقها في مهدها السلطان العثماني، فدفع المعني حياته وحياة أبنائه ثمن هذه المحاولة وهو ما حمل العلامة محمد كرد علي على وصف فخر الدين وتجربته بالقول: “كان واسع الصدر، بعيد الغور والنظر، يسير مع المدنية سير تعقل، فهو بلا مراء مثال الأبطال في عصره، وعلى أتمّ الاستعداد للحرب وعلى معرفة بالإدارة وطبائع الأمة، ولو لم تصرف الدولة العثمانية قوتها كلها في قتاله لعمل في الشام في القرن الحادي عشر الهجري ما عمله محمد علي الكبير في مصر في القرن الثالث عشر الهجري ولم يكن دونه ذكاء ومضاء ودهاء”.
ثم جاء بعد فخر الدين بنحو قرنين من الزمن كلّ من الطهطاوي والشدياق وخير الدين التونسي وفرنسيس المراش وغيرهم من رجال القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ليكتبوا بتوسع وإسهاب عن مدنية الغرب والتطور الحادث في تلك البلاد على كل الصعد.
إشكالية عصرية
أما البحث الأخير الذي يبدو مخالفاً لما سبق بعض الشيء فقد عالج الكاتب إشكالية عصرية مهمّة هي معضلة النفي والاندماج في تجربتين من تجارب الأدب والفكر العربي المعاصر، أي تجربة إدوارد سعيد الفلسطيني المنفي من بلاده دون أي أمل بالعودة، فالإحساس بالنفي من المشاغل الأساسية التي استحوذت على اهتمامه على نحو لافت، إذ لم يكن يشعر بالاغتراب فحسب بل كان الشعور بالاجتثاث هو مصدر عذابه الدائم.
وتجربة الكاتب المعروف أمين معلوف الذي يدعو إلى الاندماج في عالم مختلف عن عالمنا المعهود، حيث يدعو إلى التماهي النسبي مع البلد الذي يحيا فيه المهاجر، وذلك يقتضي مراعاة التقاليد والعادات التي تساعده على الانسجام والخصوصية، لأن الهوية في نظره هي حصيلة انتماءات مختلفة ولا يمكن اختزالها في انتماء واحد يجعل صاحبه عبداً تابعاً له، كما يحول دون اندماجه في الوسط الجديد.
عُلا أحمد