الخرافات المعاصرة
ناظم مهنا
في عالم “مابعد الحداثة” أو عالم التقنيات، أو ثورة الاتصالات، يتمُّ إنتاج خرافات جديدة، في أماكن متعدّدة، وفي مصانع معلنة وخفيّة، إنتاج خرافات جديدة في عصر العلم! وكأنْ لم ينته زمن الخرافات، كما كنّا نعتقد، وليست الخرافات حكراً علينا نحن أهل الشرق، أو على الأفارقة! بل هي أيضاً نتاج غربي! الخرافات المعاصرة التي ينتجها الغرب بعناية وتَحكّم، تختلف عن الحكايات الخرافية البدائية والبريئة التي تنتجها الشعوب، والتي ظلّت عبر العصور تحتفظ بسحرها وجمالياتها التي أبدعها الخيال الإنساني البكر، منذ فجر الوعي، على شكل حكايات وأساطير.
الخرافات المعاصرة، هي أكاذيب يخترعها خبراء مخطّطون دهاة، وهي توظف في عملية الهيمنة وآلية التحكم، والترويج، ولذلك هي فبركات مصنّعة تحاكي الحقيقة! ولا يهتمّ مبتكروها إذا ماتكشفت أو سقط القناع عنها بعد حين، المهم أن تؤدي الغرض بنجاح. يحدث هذا دائماً، ونحن لا ندرك الأحابيل التي تنصبها لنا الطغمة التي تنتج هذا النوع من الأكاذيب، وأين يقبع هؤلاء، وماهي جنسيتهم، ولصالح من يعملون، إنهم يشبهون القوى الخفيّة، كما الشركات المتعدّدة الجنسيات والعابرة للحدود، موجودون في قطاعات متنوعة من مجالات الحياة، ففي مجال الصحة، خلال العقدين الماضيين، تمَّ اختراع أمراض عديدة، ترافقت مع نشر الذعر في العالم، سرعان ما بلغ التهويل فيها ذروته، ثم تنحسر الكذبة وتختفي، والأمر كذلك عن أخبار الزلازل، والكوارث المتوقعة، وعدم الاستقرار الأمني التي يسوقونها لضرب السياحة في بلد ما، وحتى في الحديث عن ملكات الجمال وحفلات تتويجهن!. أما في مجال السياسة والاقتصاد أو الآداب والفنون، فهنا تنشط بشكل كبير الآلية التي تنتج الخرافات الموظفة! هذا النمط الدعائي السافر والعدواني الذي يبث إلى الأماكن التي يريدون التلاعب بها، ويتمّ الترويج لأمر ما قد يبلغ من القذارة حدَّ التفكيك والتدمير، حتى يحتار الناس في تحديد من المسؤول عما حدث!.
أعتقد أن الفارق الجوهري بين الخرافات القديمة والخرافات المعاصرة أن الأولى تربطنا جمالياً ووجدانياً بالعالم، وتمدّ الجسور والأواصر بين الثقافات، بينما الخرافات الجديدة فهي مبتورة سريعة الزوال، ولكنها قادرة بعنف أو بغير عنف أن تفصلنا عن العالم وعن الزمن، وتعيد عقارب الساعة إلى الخلف. قدّم لنا العالم القديم أساطير رائعة، كانت بمنزلة بؤر جمالية ومعرفية ورمزية، مثل أبطال الأساطير اليونانية وأساطير الشرق، والأساطير البابلية والفينيقية والفرعونية.. إلخ، بينما الأساطير والخرافات والأوثان الجديدة تكون خالية إلا من الضجر! في السياسة يخترعون أوثاناً غير صالحة للهضم، غير صالحة لأن تؤكل مثل آلهة العرب القديمة، بل على العكس تكون الأساطير المعاصرة هي التي تأكل الإنسان، وقد تلتهم حتى مخترعيها! مثل رواية أوسكار وايلد “صورة دوريان جراي”، وأكثر ما تكون صناعة الخرافات الجديدة في عالم السلعة، والماركسيون يستخدمون عبارة “صنمية السلعة”، وفي عالم الثقافة والميديا الجديدة حدث ولا حرج عن أساطير ميدوزية الرؤوس! إنها “حداثة التخلف” كما أطلق عليها المفكر الأمريكي شارل بيرمان! لكن، لا تخلو الخرافات الجديدة من الإبهار والإتقان، لأنَّها مصنّعة على أيدي خبراء. وقد يقول قائل، إننا نقع هنا في الحيرة والتناقض حول الأساطير الجديدة، وهذا التناقض والجدل الخلافي، من ميزات هذه الصناعة أن توقعنا بالحيرة والتمزق والتناقض، وإلا ستكون فاشلة!. إن عالمنا حافل بالأكاذيب، تصدر على شكل حكايات وسرديات مزوّدة بالصور.. وبما أن العالم القائم على الصراعات لن يتوقف عن إنتاج الخرافات، فليس أمامنا إلا أن نجيد التحليل والنقد والشك لما يطرح على أنَّه حقائق.