د.وفيق سليطين.. ذلك الاحتجاب العظيم
“أكتب هذا القليل لأرى نفسي أو لأقوّمَها في كنف تلك البصيرة التي تَصِلُ بروح العالم” بهذا الكلام لخص الشاعر والناقد د. وفيق سليطين الذي رحل عن عالمنا مؤخراً علاقته بالكتابة وهو الذي كان يؤكد أنه مُقلٌّ فيها شعراً ونقداً، وأنه ليس كاتباً محترفاً لأنه لم يكن مأخوذاً بالحضور الكمّي ومصاحباته الخطابية والإنشائية، مؤكداً على أن كلا من الشاعر والناقد يتطلب الآخر عبر مقاومته النسبية له ممارساً نوعاً من الضبط الضروري على ما يكتب، ولذلك كان يحاول أن يكون على مسافة نقدية تجاه ما يكتب، وأن يعزّز حضورَ هذه المسافة تجاه كثير من التجارب المحمومة بفكرة إعلان نفسها نقطةَ ابتداءٍ خالصة، بينما هي تأتي دائماً من الأخير، وتكتب بلغة تجهل أسرارَها، فضلاً عن جهلها بالتاريخ الجمالي للنوع الذي تكتب فيه.
بصيرةُ الكشف
وصف سليطين الشعر أنه اختراقٌ لهشاشة الوجود الطاغي، ونقضٌ لركام الغثاء وإنه بصيرةُ الكشف عن روح العالم، وهو ما يحتاج دائماً إلى تقشيره من سطوحه وطبقاته المتراصة، وأنه لا سبيل إلى ذلك إلا بالرؤى الحية التي توجِب تقشيرَ الأداة نفسها، أي انتهاكَ سُنَن اللغة، في علاقاتها وأنظمتها المتشكّلة، والمغامرةَ بها لخلق كيفيات جديدة للقول، بحيث تكون شرارةَ التصادمات القاسية والاحتكاكات الصعبة والمزاوجات البعيدة الكاشفة التي تقف على حافة التخوم القصوى وتتوثب، مبيناً أن إبداع الشاعر مرتبط أولاً بتحول مفهوم الشعر بين زمن وآخر، وبين ثقافات متعاقبة أو متجاورة وهو مرتبط تالياً بموقع الفاعل له، مشيراً إلى أن الشعر في مرحلة ما كان مكتفياً بالاستجابة الانفعالية للظواهر بشرط الكفاية اللازمة للتعبير عنها وقد بات من غير الممكن في العالم الحديث أن يتعرف المبدع بغير شرط الثقافة اتساعاً وعمقاً، وهو بغير ذلك ليس مؤهَّلاً لإنتاج نصّ جديد هو من الغنى والتركيب بحيث ينطوي على رؤية عميقة للعالم، أو بحيث يكون قادراً على بناء موقعه داخل شبكة الثقافة المعاصرة وأن ثمة فارقاً كبيراً برأيه بين استجابة النصّ لثقافةٍ معطاة يعكس أوضاعَها ويثبّتها، وبين فعل النصّ في الثقافة وإسهامه في تخصيبها وإعادة بنائها.. ومن هنا يفرق سليطين بين النظَّام والشاعر، بين المحاكاة والإبداع، وبين الانفعال الهش والفعل المؤسّس.
الشعر والتصوف
بداياته في كتابة الشعر تعود لمرحلة الطفولة وأتاح دخوله الجامعة مدفوعاً بحب الأدب العربي مجالاً لنمو تلك الموهبة، وقد تأثر الراحل بالشعر الصوفي وهو أحد المنظّرين للحداثة في الوقت ذاته وقد كلف بإعداد كتيّب صدر بالتعاون بين وزارة الثقافة ودار البعث رصد فيه أوجه العلاقة بين الشعر والتصوف، مؤكداً فيه أنها أوجه متعددة تصل حد المطابقة،خاصة على صعيد اللغة التي تخرج عن القيد ولغة التواصل المعتادة: “عين الشاعر تلتقي بعين الصوفي في أنها تخترق حجب الأشياء لتنفذ إلى أعماقها”.
الفن لا يختزل
يقول الناقد فاروق المغربي في كتابه “النقد التطبيقي” عن وفيق سليطين: “يشتغل سليطين على اللغة فتغدو لديه هماً ذا حضور، وقصائده صور جديدة، ولا تكمن الصوفية عنده عند المفردات والمعاني المبثوثة وإنما في خلق المعاني المتناقضة والغامضة والممتلئة برؤى فلسفية يلفها التصوف” وكان سليطين قد أكد في حواراته على أنه دائم الاشتغال على اللغة لقناعته أنها ليست عنصراً خارجياً يضاف إلى التجربة بل هي من صلبها ولكنها ليست اللغة المقعرة ولغة القواميس بل هي اللغة التي تقوم بالتشكيل وإنشاء علاقات جديدة بين الأشياء وتستكشف ما هو جمالي في طرائق تشكيلها، موضحاً أن كثيراً من الحداثيين اتجهوا إلى البسيط من الكلام اليومي والعابر وأن تجارب بعضهم استطاعت أن ترتقي بهذه البساطة وتصنع منها نسيجاً شعرياً شديد التماسك والبراعة، وهذا ليس بغريب لأن الحداثة برأيه ليست لوناً واحداً، فلكل مبدع حداثته وهذا ما ينبغي أن يكون، ولكن ليس شرطاً أن يتحقق ذلك “ولو كان كذلك لكان الحال أغنى وأفضل”. أما شعراء الحداثة الذين يتجهون إلى الجملة الشعرية غير القابلة للتأويل ويعتبرون التأويلات الحديثة نقيصة فهم برأيه لا يعرفون أن الفن لا يختزل، وهو ليس قولاً مباشراً وصكاً للمفهومات، حيث تقوم فنية النص برأيه على تعددية قراءته وطرائق استكشافه لا على قول الأشياء قولاً نهائياً لأن ذلك يستنفذ كل شيء وحينها لن نكون أمام قضية فنية أو جمالية حيث من طبائع الفن ليس في الشعر وحده تقديم الرؤى والصور والتشكيلات المختلفة ليكون النص السامي هو الذي يحتمل هذه الوفرة وقابلية الانفتاح على كل الرؤى المختلفة وهذا ما يفسر لنا وجود نصوص كثيرة ما تزال حتى اليوم محلاً لقراءات مختلفة.
رؤى متقدمة
كان سليطين يرفض أن يكون فهم الحداثة عبارة عن تطويق للتراث برمته وأن تقوم الرؤى الحداثية على التراث لاجتراره ومطابقته، لإيمانه أنها تقوم على إعادة إنتاجه على نحو مختلف انطلاقاً من هاجس العصر، فالشاعر والكاتب – برأيه – يعود للتراث لا ليستظهره، وإنما ليقدم رؤى شعرية ونقدية معاصرة بعين الحاضر ليعيد إنشاء صلتنا به على نحو مختلفوأن العودة إلى التراث تكون بالانخراط في رؤى متقدمة وليس بالمطابقة التي لا تنتج جديداً.
والدكتور وفيق محمود سليطين شاعر وناقد وأستاذ جامعي، من مواليد محافظة اللاذقية، 1961، دكتوراه في اللغة العربية وآدابها من جامعة القاهرة، عمل أستاذاً في كلية الآداب بجامعة تشرين كما عيّن سابقاً رئيساً لقسم اللغة العربية، عضو اتحاد الكتاب العرب، نال العديد من الجوائز، منها جائزة المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم عام 1998، وكذلك جائزة وزارة الثقافة بدمشق 1991.
من أعماله الشعرية: أسفار الكائن الآخر (1991)، حافياً إلا من هذا الحب (1996)، في سماء الهديل (1997)، العتبات (1999)، معاكسة لأوابد الضوء (2004)، شقوق المعنى (2008)، كما لستَ أنت (2010)، عناقيد الزبد (2011)، أخضر كالسرير، العالم الذي لم يعد هناك (2018)، أشياء العالم الصغير (2019)، وأصدر في العام الحالي (ذلك البزوغ الأول، ذلك الاحتجاب العظيم) .
وله العديد من الكتب والمؤلفات النقدية، منها: الشعر الصوفي بين مفهومي الانفصال والتوحد (1995)، الزمن الأبدي (1997)، الكتابة السالبة من المتابعة إلى الحوار (2006)، الشعر والتصوّف (2008)، غواية الاستعادة النص القديم في أفق القراءة المعاصرة (2009)، في نقد الانغلاق الخصوصي (2021).
أمينة عباس