أين ضاع البعد الثالث من اللغة المرئية؟
غالية خوجة
منذ ظهور الشاشة والعالم متلهف للمزيد من اللغة المرئية، ومع تطور هذه الشاشة بأشكالها المتنوعة وصولاً إلى وسائل التكنولوجيا الحديثة، انشغلت الشاشة بنفسها فلم تعد منشغلة بمن يتابعها لأنها تستقطبهم من خلال دراسات تحليلية نفسية واجتماعية واقتصادية وسياسية، وتتحكّم بهم من خلال هذه الدراسات كما يتحكم جهاز “الريموت كونترول” بالأجهزة الأخرى، وتوجههم وتحدد خياراتهم ورغباتهم وتستهدفهم عقلياً ونفسياً وروحياً واجتماعياً ووطنياً، لأنها تعرف ما تريد الآن وغداً وبعد غد.
ولذلك، تتعامل معهم كهدف مسبق الصنع، وعنصرٍ تابع لا يستطيع الاستغناء عنها لأنه أدمنَ على الكثير من موبقاتها وسطحياتها ومظاهرها السلبية السالبة الاستلابية، فأصبح في المرمى فحماً تزيده هذه الوسائل والوسائط اشتعالاً استهلاكياً، يمتص دون تفكير وبلا وعيٍ ما تقدمه له بمختلف أنواعها وتنويعاتها، ثم يعكسه على ذاته ومجتمعه ووطنه حتى لو كان مدمراً ومخرباً وجهنمياً وشيطانياً.
لكن، كيف رزح المشاهد في سجن ما تريده اللغة المرئية المعتمة؟ وكيف استطاعت ممارسة سلطتها الديكتاتورية عليه حتى داخل الفضاء الافتراضي؟ ومتى سينزح المشاهد عن هذه اللغة ليجعلها مرئية تابعة لحياة أكثر إضاءة فينزح بوعيه المثقف عن مجالها التنويمي المغناطيسي؟
سابقاً، كان للأدوات الجمالية أهميتها التي لا تقل عن مضمونها الجمالي الخلوق، وكانت المحور الجاذب للغالبية، لأنها تضيف إليهم المعرفة بكافة أشكالها الوطنية والعلمية والثقافية والاجتماعية والأدبية والاقتصادية والسياسية والتجارية والفنية والنقدية، وهذا ما تثبته ذاكرة السينما والتلفاز، وكان القائمون والمنتجون يهتمون بالبعد الأخلاقي والتربوي والتعليمي، لأنهم يدركون أهمية هذا البعد وتأثيره ومؤثراته على الذات والمجتمع، ولربما جعل بعضها هذا المحور طعماً استقطابياً ليتمكّن لاحقاً من “دسّ السمّ في الدسم”.
ما يحدث أن العلاقة الحالية بين المجتمع واللغة المرئية علاقة منقطعة عن الإيجابية لدرجة الاحتباس، والشاشة محبوسة منذ أزمنتها الأولى الجميلة عن المشاهدة، وأصبحت مجرد قطعة أثاث، لأن الأغلبية أدركت أن الشاشات تستهلك أعمارنا وطرائق تفكيرنا وتجعلنا سلبيين ومستهلكين، كما معظم “الدراما” المتجاوزة للخطوط الحمراء، وأغلب مسلسلاتها وأجزائها المتسلسلة التي لا تنتهي أصبحت من الأسلحة الفتّاكة بالقيم النبيلة، والمبيدات القاتلة لكل إحساس وطني وأخلاقي ومعرفي وانتمائي، ومدمرة للهوية والدواخل الإنسانية، ومفعولها لا يجدي إلاّ في التربة الجاهلة التي تطوّر الجهل والتخلّف وتحارب المعرفة والعلم والحضارة ببنيتها العريقة القائمة على الأخلاق.
والمحور الأشد تأثيراً، هو ما يوجه إلى مراحل الطفولة واليفاعة، وهذا بحدّ ذاته هدف دسم للمشوِّشين والمشوٍّهين والمخربين، ولذلك، لا بد من حملة توعوية مضادة، توظف الشاشة بموضوعية ومدنية ووطنية وحضارية متناغمة مع الحياة المعاصرة، غير متغافلة عن التوظيف الاحترازي والاستباقي لتغرس الوعي المشرق ليزهر مستقبلاً لا يشوبه الصدأ التفكيري ولا التحجّر المفهومي ولا التكلّس المزمن للضمائر ولا التفجير المتسارع للقيم.
وهذا التغيير القابل للمتغيرات لن يحدث إلاّ إذا أدركت الشاشة بمختلف أشكالها أنها مكتبة للحياة بمعارفها وعلومها المختلفة وثقافتها وآدابها وموسيقاها الراقية لتنجز هدفها الحياتي الواعي انطلاقاً من هدفها الوطني الشمولي الجاد المتجوهر مع الحياة لا المبتذِل للمُشاهد والحياة.
وبلا ريب، الشاشة رمز للوسائل والوسائط الأخرى الراديومية واللا سلكية والإلكترونية، فلا يمكن أن نستمع لبرنامج إذاعي يملأ الفراغ بالتلوث بحجة أنه ترفيهي، ولا يمكن أن نترك المغرضين يروجون لتخريبهم الظلامي ومفاعيلهم الهدّامة بحجة حرية الرأي المتوازية مع الموسيقا التقنية التي تسبب الإدمان وتلعب على غسيل الأدمغة فتفرّغها من الإيجابي لتستلبها ثم لتتحكم بها بسهولة، جاعلة من المتعاطين مجرد أجسام فيزيائية متحركة على الأرض، هدفها الوصول إلى العالم السفلي.
ترى، لو لم يُضع الإنسان عمره في هذه الفراغات كم أضاف لذاته ومجتمعه في مرحلة البناء؟