في ذكرى تحرير القنيطرة: إصرار على تحرير كامل تراب الجولان
القنيطرة ــ محمد غالب حسين
تنداح بنا الذاكرة سبعة وأربعين عاماً خلت، ليوم الـ 26 من حزيران 1974، مستذكرين اليوم الوطني الجولاني الأغر، يوم تحرير مدينة القنيطرة، عروس الجولان، وعاصمته التي توشّحت بالنّفل والرّشاد، وحملت باقات الغار، مزدانة بالفرح والنصر، منتظرة سيّد الوطن، القائد الخالد حافظ الأسد، الذي أطلّ بقامته الشّامخة، محاطاً بزحوف أبناء الوطن، بابتسامته الحانية، ونظراته الوادعة الموحيّة؛ وفي الساحة الرئيسة، انحنى بتواضع الأبطال العظماء، وقبَّل علم الوطن، ورفعه بسماء مدينة القنيطرة عالياً تيّاهاً خفاقاً مرفرفاً، إيذاناً بتحرير مدينة القنيطرة وعدة قرى ومزارع في الجولان قائلاً:
“إن الكلمات جميعها عاجزة عن وصف هذه المناسبة. أستطيع أن أقول باختصار إن إرادة الشعب لا يمكن أن تقهر، وإن الوطن فوق كل شيء، وعلينا أن نستمر في الإعداد لطرد العدو من كل شبر من أراضينا العربية المحتلة. وأنا متفائل بالنصر، ومتفائل بالمستقبل، وواثق من أن أية قوة على هذه الأرض لن تستطيع أن تمنعنا من استرجاع حقوقنا كاملة. إن هذه الجماهير التي نراها، تملك كل الاستعداد للتضحية، وكل الاستعداد للبذل من أجل تحقيق إرادتها في تأكيد حرية جماهيرنا في هذا القطر، وفي الوطن العربي.
سيبقى شعبنا في هذا القطر نبراساً للأمة العربية، سيبقى رمزاً للتضحية، وستبقى هذه الجماهير أبداً النور الساطع من أجل الحرية، من أجل تحرير الوطن، من أجل كرامة الأمة العربية”.
نهضة كبرى
وشهدت محافظة القنيطرة بعد تحرير المدينة ولادة جديدة، ونهضة شاملة خاصة في مجال الإعمار، حيث تمّ إعادة إعمار قرى الحميدية، والحرية، والصمدانية الغربية، وبريقة، وبئر عجم، والأصبح، وصيدا، والرّفيد، والقحطانيّة، ومدينة البعث لتكون مقراً للمحافظة ومؤسساتها وشركاتها ومديرياتها ودوائرها. وتضم كل قرية من القرى النموذجية الحديثة التي تمّ إعمارها منظومة خدمية متكاملة من شبكات مياه الشرب والكهرباء والصرف الصحي والهاتف والمدارس والمراكز الصحية والوحدات الإرشادية الزراعية والريفية، إضافة لبناء مستشفى الشهيد ممدوح أباظة الذي يعتبر صرحاً طبياً علاجياً، ويستقبل مئات المرضى، ويستوعب مئتي مريض نزيل، وبناء المجمع الحكومي مقراً لمحافظة القنيطرة، وأبنية حديثة لكل المؤسسات والشركات والمديريات والدوائر بالمحافظة.
وترافق ذلك مع توفير مستلزمات النهضة الزراعية حيث تمّ بناء سدود رويحينة، وبريقة، وسد الهجة، وسد غدير البستان، وسد كودنة.
وفي المجال الزراعي، لابد من ذكر مشاريع التشجير المثمر ومراكز إنتاج الغراس ومراكز أمهات الأشجار في أيوبا، وطرنجة، وصيدا، والمشتل الحراجي، ومنشأة دواجن القنيطرة، وغيرها.
وقد منح القائد الخالد محافظة القنيطرة وأبناءها كريم محبته، وسابغ رعايته، وجزيل اهتمامه، وأوعز للحكومة بتقديم جميع أنواع الدعم للمحافظة، وتمويل مشاريعها الاقتصادية والخدمية والزراعية والتربوية وتنفيذها بالسرعة القصوى.
وصاغ ذلك كله نهضة كبرى بالجزء المحرر من المحافظة، دعماً لسكانها بمواجهة الاحتلال الاسرائيلي، وتجلّت الخدمات الناجزة بكل البلدات والقرى والمزارع في المجالات التربوية والصحية والهاتفية والكهربائية والزراعية والتنموية.
ذكريات وشهادات
وما زالت ذاكرة أبناء الجولان تختزن ذكريات طازجة ومهمة ومفصلة عن حرب تشرين التحريرية وحرب الاستنزاف، لأن أرض الجولان كانت مسرحاً لأحداثها وبطولاتها. وأبناء الجولان أكثر اهتماماً بتفاصيلها، لأنهم عاشوا أيامها، وعرفوا دقائقها، وعاصروا ذلك اليوم الوطني الجولاني الأغر، يوم 26 حزيران ١٩٧٤.
وتحدث الشيخ رضوان الطحان، وهو مدرس وعضو مجلس شعب سابق من قرية كودنة، عن ذكرياته قائلاً: كان تحرير مدينة القنيطرة ثمرة مباركة لحرب تشرين الخالدة، وبطولات الجيش العربي الباسل في جبل الشيخ وبطاح الجولان التي شهدت أشرس معارك الدبابات في العالم بعد أن قام حنودنا الأباة بتدمير خط آلون الذي قام الاحتلال الاسرائيلي بتحصينه، واجتازوه نحو عمق الجولان.
وتابع الطحان: في أرض الجولان حيث يشمخ جبل الشيخ، ويتطامن تل الفرس، ويسمو تل علي أبي الندى، قدّم الشهداء الدماء الزكية، وبذلوا الأرواح الطاهرة فداء لتراب الجولان الذي تخضّب بنجيع طاهر ومقدّس.
كان صباح ذلك اليوم متوهجاً بالعزة والفخر والانتصار، فقد تنادى أبناء الوطن من كل حدب وصوب، ورحّب بهم أبناء محافظة القنيطرة، ليشهدوا لحظة فاعلة في التاريخ حين دخل القائد الخالد ليرفع علم الوطن عالياً شامخاً في سماء القنيطرة.
الباحث الجولاني فوزي عطية المحمد، من قرية راوية الجولانية، فاستذكر نشوة النصر، وفرحة التحرير قائلاً : كنت آنذاك طالباً في المرحلة الثانوية، وعشت كما كل أبناء الوطن أيام العز والفخار في حرب تشرين التحريرية، حيث كان الوطن والشعب والأمة على موعد مع النصر، مع ملحمة العرب الكبرى في العصر الحديث.
وهنا نستذكر بكل المحبة والإكرام القائد الخالد حافظ الأسد الذي منذ تسلمه مهمة قيادة الوطن، بدأ بالعمل لاستعادة الجولان من خلال إعداد الجيش العربي السوري، تدريباً وتنظيماً وتسليحاً، ليوم التحدّي؛ وكان يوم السادس من تشرين وحرب الفخر والمجد والانتصار. وعلى الرغم من الإرهاصات التي وقعت على الجبهة المصرية آنذاك، والدعم الأمريكي المنقطع النظير للاحتلال الاسرائيلي بأحدث الأسلحة، تابع جيشنا صموده ودفاعه، وردّ جيش الاحتلال الاسرائيلي مهزوماً خائباً، وتمكّن الأبطال من تحرير مدينة القنيطرة وعدة قرى ومزارع في الجولان.
وضحة المعاون، من قرية السماقة الجولانية، والتي تسكن في تجمع الفضل لأبناء محافظة القنيطرة، تحدثت بأشواق لا تنتهي ولهفة لا ترتوي عن الجولان، وعن قريتها، وذكريات الطفولة واليفاعة والشباب فيها.
استذكرت نبع البالوع بقريتها، وبرعتْ بتوصيف شجيرات السماق المخضرّة في سهولها ووديانها حيث متحت القرية منها اسمها، وأسهبت بالحديث عن جمال الجولان وينابيعه وتلاله وأرضه الخيرة المعطاء وأنغام صباحاته وترانيم الأماسي القمراء الزاهية الباهية.
وعندما وصلت ليوم تحرير القنيطرة، توهّجت عيناها، وزها الوشم في خديها فرحاً، وقالت : منذ الصباح كانت آلاف الباصات والسيارات التي تضمّ عشرات الألوف من المواطنين متجهين لمدينة القنيطرة، مزهوين مبتسمين فرحين.. وصلنا بعد طول انتظار. أحسست نفسي في بحر من البشر. هذا يغني، وتلك تتصور، وثالث ارتقى مرتفعاً، وينظر لعمق الجولان الحبيب، وكوكبة من الشباب والصبايا يهزجون ويدبكون، رجال شرطة المرور ينظمون السير مرحبين بالمواطنين، الجنود الأبطال ببزاتهم الزاهية وقاماتهم المنتصبة، رجال الإطفاء، الأطفال والنساء والشيوخ.
قال لي زوجي: احرصي على الأطفال، أخشى أن يتوهوا عنا في هذا الزحام.. سرنا في المدينة: هذا مستشفى الجولان، وهذه مدرسة التجهيز، وتلك ساحة بانياس، منها تنطلق الحافلات نحو قرى واسط والسماقة والقلع وجبب الميس وزعورة وسكيك ومسعدة، هذا مسجد القنيطرة الكبير، وتلك الكنيسة.. نعم إنها مدينة القنيطرة التي دمرها الاحتلال الاسرائيلي هدماً بالبلدوزرات ونسفاً بالديناميت..
وفجأة، ساد صمت جميل بهيج. لقد وصل السيد الرئيس حافظ الأسد.. حيّا المواطنين مبتسماً فرحاً. رسم شارة النصر، وتعالت الهتافات والزغاريد والأغنيات عندما بدأ علم الوطن يشمخ مرتفعاً بساحة مدينة القنيطرة. دموع الفرح تغسل الوجنات، الأنظار تقبّل تلول علي أبي الندى والعرام وسهول المنصورة وباب الهوى، وتتهادى عمقاً نحو بحيرة طبرية والعُقدة وتل الفخار وعين فيت ونهر البانياسي وكفر نفاخ ونعران والخشنية وفيق والعسلية ونعران وكفر حارب ومسعدة وكل حبة تراب وزهرة وشجرة وقرية ومنزل ومدينة وواد ونهر وزيزفونة ونرجسة جولانية.
اهتمام وأولوية
تنامى الاهتمام بمحافظة القنيطرة من قبل السيد الرئيس بشار الأسد الذي منح الأولوية والأهمية لمشاريع محافظة القنيطرة التنموية والخدمية، وتمّ إحداث الكليات الجامعية والمعاهد المختلفة، ومنح الأفضلية لأبناء محافظة القنيطرة فيها، ناهيك عن الاستصلاح المجاني لأراضي الفلاحين الوعرة، والبدء بإعادة إعمار قريتي القحطانية والعشة. وتوسّعت مدينة البعث عمرانياً ببناء مئات الوحدات السكنية الطابقية، وبناء سد المنطرة، والاهتمام الخدمي والصحي والتربوي بتجمعات أبناء محافظة القنيطرة بمحافظات دمشق ودرعا وحمص وريف دمشق.
وقد واجه أبناء محافظة القنيطرة بكل عزم وثبات العصابات الإرهابية المسلحة المرتبطة بالاحتلال الاسرائيلي، وقدموا الأرواح الزكية والدماء الطاهرة التي أزهرت نصراً، وتوهّجت فخراً، واستطاعوا بفضل بطولات الجيش العربي السوري الباسل تطهير المحافظة من رجس الإرهابيين، ودَنس التكفيريين.
الأهل الأباة
ونستذكر بهذه المناسبة الأهل الأباة في الجولان السوري المحتل، بقرى مجدل شمس ومسعدة والغجر وعين قنية وبقعاثا الذين رفضوا الاحتلال الاسرائيلي، وما صدر عنه من قرارات احتلالية زائلة، وإجراءات عدوانية باطلة، وهم يعلنون على الدوام الانتماء الراسخ الثابث للوطن الأم سورية، والتمسّك بالهوية العربية السورية والاعتزاز بها، والولاء لقائد الوطن السيد الرئيس بشار الأسد، والثقة الأكيدة التي لا يخامرها شك بتحرير كامل تراب الجولان.