أوكرانيا.. حصان طروادة للولايات المتحدة والناتو
هيفاء علي
في نهاية عام 1991، وبعد تفكك الاتحاد السوفييتي، استماتت واشنطن لإضعاف روسيا بغية السيطرة على مواردها وتحييدها كقوة عالمية. وبالنسبة إلى زبيغنيو بريجنسكي، أحد صقور البيت الأبيض ومنظّر السياسة الخارجية الأمريكية، يتعلق الأمر بتقويض النفوذ التاريخي لروسيا في محيطها السوفييتي. ووفقاً له، فإن الرؤية الروسية عن “الخارج القريب” تمنح أوكرانيا دوراً رئيسياً، وتترجم منطقاً جيوسياسياً “إمبريالياً”. وتبقى عقيدته، التي وصفها في كتابه “رقعة الشطرنج الكبرى” في عام 1997، وصولاً إلى رئاسة بايدن، قالب الدبلوماسية الأمريكية المرتكزة على منع ظهور منافس في القارة الأوراسية يضرّ بهيمنتها العالمية.
كان صميم عقيدة بريجنسكي هو السيطرة على “المحاور الجيوسياسية”، وهي جمهوريات الاتحاد السوفييتي الإستراتيجية السابقة، بهدف إقامة “تعددية جيوسياسية” في عالم ما بعد الاتحاد السوفييتي تمنع روسيا من العودة لنوستالجيا الماضي، أو السعي لاستعادة مجالها السياسي. بالنسبة إلى بريجنسكي، يجعل هذا التكوين الجيو- استراتيجي من أوكرانيا أولوية للدبلوماسية الأمريكية لتبرير كل “التلاعب”. ومن أجل كبح أي ميول روسية، أصبحت السيطرة على أوكرانيا هاجساً استراتيجياً لواشنطن، وهنا يدرك الجميع لماذا قامت “ثورة” عام 2004 “البرتقالية”، وثورة عام 2013 “ميدان”، التي آلت إلى انقلاب 22 شباط 2014. وقد نجح العديد من الأزمات التي تمّت حياكتها بذكاء، ومن ثم أُحبطت لاتهام موسكو بالوقوف وراءها، وآخرها أزمة مضيق كيرتش.
هذه السيطرة على المحور الأوكراني تعبّر عن القوة الناعمة الأمريكية، وركوب “الديمقراطية” كأيديولوجية “ثورية” تحملها منظمات غير حكومية مدولرة، وتركز على “تغيير النظام” من خلال تعويم ودعم التيارات المتطرفة، بما في ذلك النازيون الجدد، كطليعة تعمل واشنطن على الترويج لها وتسويقها. وقد لعبت المجموعات شبه العسكرية المتطرفة دوراً حاسماً في الانقلاب القومي المعادي لروسيا، والذي توّج، في 2 أيار 2014، بمذبحة أوديسا، تحت أنظار الغرب الساهرة!.
واليوم، بات شبه مؤكد أن الولايات المتحدة تعدّ العدة لإضرام نيران حرب جديدة في أوكرانيا، ويكفي الحصول على خريطة للعالم، والبحث في غوغل عن عدد الحروب التي أشعلتها الولايات المتحدة، منذ عام 1775 حتى يومنا هذا، ومن الحروب ضد الهنود ومجازرهم، إلى حروب آسيا والشرق الأوسط، كما يكفي النظر إلى معاقل الولايات المتحدة في جميع أنحاء العالم، لفهم أنها تتحدث عن “السلام” لكنها تفرض مصالحها طوعاً أو بالقوة، وأنها تقدم بيادقها باستخدام أسلوب الترهيب، وتهاجم باسم التجارة الحرة أمس وباسم “حقوق الإنسان” اليوم. ويجب عدم نسيان المصير الذي توعدت به الولايات المتحدة الفرنسيين لولا أن الجنرال شارل ديغول أحكم قبضته على الجهاز الإداري، ورفض الأموال التي كان يحملها الأمريكيون في أمتعتهم.
في وقت مبكر من عام 1941، وحتى عام 1942، كانت واشنطن تخطّط لفرض وصاية على فرنسا تحكمها حكومة الحلفاء العسكرية، كما حاولت فعل ذلك مع المهزومين لاحقاً، أي إيطاليا وألمانيا واليابان. وكانت الحكومة العسكرية الأمريكية، في الأراضي التي احتلت، قد ألغت كل السيادة، بما في ذلك الحق في صك النقود، على النحو المنصوص عليه في اتفاقيات دارلان كلارك، في تشرين الثاني 1942.
ولكن المحاولة الأكثر نموذجية، لهذه الإرادة في تقليص نفوذ روسيا، تتجلّى في استخدام أوكرانيا لدفع البيادق الأمريكية إلى أوروبا الشرقية، وشبه جزيرة القرم خير مثال على ذلك، إذ تنتمي شبه جزيرة القرم هذه التي يعرفها أي شخص لديه حدّ أدنى من المعرفة التاريخية إلى روسيا منذ عام 1783. والفرنسيون يعرفون الأمر حق المعرفة، لأنهم قاتلوا جنباً إلى جنب مع سكان ولاية ألبيون الأمريكية ضد الإمبراطورية الروسية في شبه جزيرة القرم، وقد كلفهم ذلك آلاف القتلى في عهد نابليون الثالث.
وفي عام 1991، بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، حصلت القرم على وضع جمهورية ذات حكم ذاتي داخل أوكرانيا المستقلة، وأصبحت سيفاستوبول مدينة ذات وضع خاص، مع التذكير بأن القرم كانت روسية منذ عام 1783، في عهد الإمبراطورة كاترين الثانية. وفي زمن خروتشوف في الاتحاد السوفييتي، لم يكن أحد ليتخيّل، للحظة واحدة، أن الإمبراطورية السوفييتية بأكملها كانت على وشك الانهيار، ما يفسح المجال للبلدان التي ستقرّر إما الانضمام إلى الاتحاد الروسي أو الحصول على الاستقلال.
اعتبرت أوكرانيا المستقلة الجديدة أن شبه جزيرة القرم الروسية تنتمي إليها بشكل كامل وحقيقي، وذلك بمرسوم بسيط، مع العلم أنه يغلب عليها الطابع الروسي، وهي تتحدث الروسية، وتشعر بانتمائها لروسيا وليس لأوكرانيا. وسيفاستوبول مدينة روسية أيضاً، والأهم من ذلك، أن الأسطول الروسي قوي هناك، ومهمته الدفاع عن جنوب غرب روسيا حتى يومنا هذا.
حاول حلف الناتو والولايات المتحدة، من خلال تأجيج ما يسمّى بالثورات الوردية أو البرتقالية، الرسو في شبه جزيرة القرم، طامعين في وضع اليد على البنى التحتية البحرية الروسية في سيفاستوبول. ولكن القوة الروسية لم تقبل بهذا الأمر، ولم تتنازل عن شبه جزيرة القرم لأي شخص، فما بالك إذا كان الأمر يتعلق بأطماع الناتو والولايات المتحدة في أوكرانيا؟.
حقيقة، فإن أوكرانيا هي حصان طروادة، وهناك خطر حقيقي من نشوب حرب من خلال أوكرانيا وحروبها على حدود روسيا (خاصة في دونباس).
وكان الرئيس الأوكراني قد دعا الناتو إلى تسريع عضوية بلاده في الحلف “من أجل إرسال رسالة حقيقية” إلى روسيا، كما قال. ويعدّ دخول أوكرانيا إلى الحلف الأطلسي، الذي تعتبره موسكو خصماً استراتيجياً، بمثابة خط أحمر بالنسبة للكرملين، الذي يرى في التوسّع الشرقي للحلف تهديداً لسيادة البلاد. في السياق، قال ديمتري بيسكوف المتحدث باسم الكرملين: “من وجهة نظرنا، هذا سيجعل الوضع أسوأ، حيث انتقلت كييف الآن من انتقاد الإطار السياسي لتسوية الأزمة في دونباس إلى التهديدات بشنّ هجوم عسكري. وآمل أن يساعد ذلك العواصم الأوروبية على إعادة تقييم موقفها، وأن تطالب السيد زيلينسكي بأن يحافظ على السلام في بلاده، ويلتزم باتفاقيات مينسك”.
في الوقت الراهن، لا يخفي المراقبون والدبلوماسيون خشيتهم من تصعيد الصراع الذي بدأ في عام 2014. وفيما أكد الاتحاد الأوروبي، الذي يتلقى أوامره من واشنطن، من جديد، دعمه “الثابت” لأوكرانيا، أعلنت الولايات المتحدة -كما هو معتاد- استعدادها للتدخل في حالة “أزمة وشيكة محتملة”. ولكن ماذا عن فرنسا، هل هي على استعداد للدخول في صراع أوروبي؟ وهل هي مستعدة لإرسال جنود فرنسيين ليقتلوا من أجل أوكرانيا، ومن أجل الناتو؟ يتساءل مراقبون فرنسيون، لافتين إلى ضرورة أن تدرك فرنسا، مثلما أدركت ألمانيا، تكلفة غزو روسيا.
ففي حالة نشوب صراع، لن تتدخل الولايات المتحدة في البداية، كما فعلت في الحرب العالمية الأولى (1917)، وفي الحرب العالمية الثانية (1943). بل فيما بعد، وعبر الناتو، وستحرز النقاط، وتأمل في حصد المكاسب. حقيقة، يعتبر “المتنورون” في بروكسل أن العلاقات مع روسيا “ميتة”. فمن المسؤول عن ذلك؟ وخطأ من؟ من الذي قرّر فرض حظر على روسيا؟ وعلى الشركات والمزارعين في الاتحاد الأوروبي، وخاصة المزارعين الفرنسيين؟ أليس الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند هو الذي نكث بكلمة فرنسا عندما رفض إبرام اتفاق بشأن طائرات الهليكوبتر المصنّعة في سان نازير؟.
شدّدت المتحدثة باسم الدبلوماسية الروسية، ماريا زاخاروفا، على أن الاتحاد الأوروبي هو الذي يكنّ العداء لروسيا. بكل المعايير، لا يمكن مقارنة رئيس كاريزمي مثل فلاديمير بوتين ووزير خارجيته سيرغي لافروف، والمتحدثة باسمه ماريا زاخاروفا، بايمانويل ماكرون وجان إيف لودريان.
فإلى متى سيقبل القادة الفرنسيون أن يكونوا خارج السباق، ويجعلوا بلدهم يتراجع، ويمضي إلى أتون حرب محتملة لا ناقة فيها للشعب الفرنسي ولا جمل؟.